مَفهومُ القوة في الدولة ومصيرُ الدول الصغيرة

بقلم السفير جان معكرون*

كان الفيلسوف الهندي “شاناكيا كوتيليا”، الذي عاش في القرن الرابع و الثالث قبل الميلاد، على حق عندما قال: إذا لم تكن لديكَ القوة فأنتَ كالملك المقهور.

لقد تناول العديد من الفلاسفة وعلماء السياسة مفهوم القوة، ونذكر منهم الفيلسوف اليوناني “سوسيديدس” الذي اعتبر ان القوي هو الذي يَفرُضُ ما يريد، وأن الضعيف يرضى بما يُفرَضُ عليه. في حين نرى “هانز مورغانتو”، أحد أهم الكتاّب السياسيين وأول المُدافعين عن البراغماتية السياسية، يُعلن بوضوح أن رجال الدولة والشعوب يهدفون اولاً الى الحصول على القوة عندما يقومون بتحقيق مساعيهم السياسية.

ان المتابع للاحداث السياسية يخرج بانطباع ان القوة هي الأفعل في تسيير الأمور العامة والدولية، وهي الأقدر على فرض إرادة من يمتلكها، وأنها السيف القاطع الذي يهابه الجميع.

و ثمّة سؤال يُطرَح دائماً: ما هو الهدف الأساس من السعي الدائم الى حيازة القوة؟

إعتقد الفلاسفة وعلماءُ الإجتماع أن أسباب هذا السعي الدؤوب الى إكتساب القوة تعود أوّلاً إلى رغبة الإنسان الطبيعية في تملّك الغير والتفوّق عليه. وهكذا يتأكّد الإنسان أن خوفه من الغير قد أُزيل بمجرد امتلاكه القوة التي تمنع هذا الاخير من الإعتداء عليه. وفي هذه المقاربة تصّح مقولة “توماس هوبس” بأن “الإنسان ذئبٌ للإنسان”.

هذا بالإضافة الى النزعة الإنسانية المُتأصّلة في شخصية كلّ إنسان وهي ارضاء نفسه والإغتباط بشعوره بعظمته الشخصية.

إن الحروب هي المحرّك الأساس الذي تمّر عبره القوة لكي تفعل فعلها بسيطرة طرفٍ على آخر، ولتنفيذ مآربه. وتُبيّن الوقائع التاريخية أن غالبية الحروب التي نشأت عبر التاريخ تعود في اسبابها الى الصراع بين الدول على الحدود والرغبة الجامحة عند الحكام في التوسّع طمعاً بثروات الغير، إضافةً إلى إزالة الخوف المُفترَض من تعاظم الدول الأخرى، بخاصة المجاورة، و كذلك الإرادة القوية لدى بعض الأمم في نشر وفرض أفكارٍ إيديولوجية دينية واجتماعية، وأخيراً التعبير عن عظمة الدولة في السيطرة على دولٍ وأُممٍ اخرى…

إن مَن يتأمل في هذه الحروب يتألم لفظاعة ما خلّفته من قتلى وجرحى ودمار. لقد نتج عن الحرب العالمية الاولى عشرة ملايين قتيل، إضافةً الى الملايين الذين ماتوا بسبب الأمراض، في حين أن الحرب العالمية الثانية قد أدّت الى موت 50 مليوناً، عدا عن الذين توفّوا بسبب الأمراض والمجاعة التي أفرزتها هذه الحرب.

واستمرّ تسلسل الحروب الهدّامة حيث فتكت بالملايين و نذكر منها على سبيل المثال ما حصل في يوغسلافيا من العام 1991 لغاية 2001، و الذي ادّى الى تفككها، وكذلك الحرب الاهلية في روندا في العام 1990 والحروب الاخيرة في العراق وسوريا…

يقول الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانت”: “إن التاريخ يُعلّمنا أيضاً أننا لم نتعلّم شيئاً”، وهو على حق، لأن الإنسان افتقر دائماً الى الحكمة التي تغتني بفعل الخبرة، والخبرة تتعلّم و تستفيد من الإخفاقات.

فالإنسان ينظر الى هذه الحروب التي تهدم المجتمعات، وتقتل البشرية، وتُخلِّف الجرحى، ومع ذلك فهو لا يتعلّم من هذه التجارب الهدّامة و المقيتة.
وكان بارعاً ومُتبصّراً “فريديريك نيتشيه” عندما شرح كيف “أن المنتصر في الحرب أحمق وكيف ان الخاسر يُصبح أكثر رغبةً بالإنتقام”. إن المنتصر في الحرب أحمق لأنه لا يُمكن لأيٍّ كان أن يربح الحرب من دون ان يتكبّد خسائر في الأرواح والممتلكات، في حين ان الحقد يتضاعف لدى الطرف الخاسر ليصبح أكثر حقداً و تواقاً الى الثأر والإنتقام.

و في هذا المجال عندما نتكلم عن حكمة الحكام لا بدّ لنا من تسليط الضوء على الحكمة الفضلى والتي عبّر عنها “فيدال كاسترو” بدهاءٍ كبير عندما قال: إن تجنّب الحرب يساوي ربحها.

إن كُتُبَ التاريخ تشهد أن الحروب التي خلّفت الدمار والقتلى والجرحى انتهت دائماً الى لقاء الأطراف المُتحاربة حول طاولة حوار من أجل الإتفاق على تسوية او اقتسام المغانم. و من الحكمة القول  أنه لو كانت هناك ذرّة تعقّل لدى قادة الدول المُتحاربة لجلسوا حول طاولة وتناقشوا حول تسوية اقتسام المغانم، أو تأملوا في ويلات الحرب قبل اللجوء اليها في اطار ما يسمى الديبلوماسية الوقائية، ولكان العالم قد تجنّب ويلات الحروب.

إن أرقى فنون الحرب هو ان تتغلّب على العدوّ من دون قتال.
ومما لا شك فيه أنه لا يوجد أمام طرفي النزاع سوى حلّين وهما: إما الحوار وإما القوة الجسدية أو الحربية. وإذا كانت الطريقة الأولى تؤدي إلى تسوية ترضي الطرفين، فإن الطريقة الثانية كفيلة بالقضاء على الطرف الأضعف حتى لو كلّفت الطرف المنتصر خسائر جمّة.

إن الإبداع الإنساني الذي ابتكر أسلحة الموت لم يتمكّن لغاية اليوم من اكتشاف الوسائل الكفيلة بالحفاظ على السلام، كما أعلن فرانكلين روزفلت في العام 1936. إن موضوع الحرب يطرح مشكلة جوهرية وهي مدى قدرة صاحب القوة على ضبط النفس وابقائها في حدود القوة الوقائية من دون التوسع نحو القوة القمعية، أي القوة المعرّاة من أي رادع خلقي وأخلاقي والتي ستدمّر كل من يقف في طريقها في حال استرسلت في جموحها.

في ظل وجود هذه البيئة الفوضوية نسأل ما الذي يضمن استمرار الدولة الصغيرة أو الضعيفة؟

الكاتب التشيكي الفرنسي، “ميلان كندِرة” (Milan Kundera)، إعتبر أن الفرق الأساس بين الأمم الكبيرة والأمم الصغيرة أن هذه الأخيرة لا تعتبر استمرارها أمراً مسلماً به أو نهائياً. وتفترض هذه المقولة أن الدولة تحتاج اولاً الى القوة  لكي تضمن وجودها واستمرارها.

ولكن ما هي الشروط الواجب توافرها في الدولة لكي تكون قوية؟

إن المدماك الأول الذي يؤسس لقوة الدولة هو ولاء جميع المواطنين لها وليس لغيرها. ولكن في عصرنا هذا، عصر تعدّد الولاءات فإن باستطاعة اي فرد أن يكتسب جنسية ثانية أو أكثر. وهكذا أصبح في أيامنا هذه بالامكان الحصول على جنسيتين أي وطنين. الأول هو مكان الولادة و أرض الأباء و الأجداد، في حين أن الوطن الثاني هو الوطن الذي وفّر فرص العمل و الإستقرار. فنحن إذاً امام ازدواجية في الجنسية وازدواجية في الولاء الوطني. لقد تخطّى المجتمع الأميركي هذه الحالة بواقعية مُعتبراً أن الحلّ يكمن في الدستورية أي التمسّك بالمبادئ الدستورية التي تقوم على احترام الدستور، وحكم القانون، والمساواة الإنسانية.

أما المدماك الثاني فهو الجيش الوطني والأجهزة الأمنية القادران وحدهما على فرض حكم القانون الكفيل بتأمين السلام المجتمعي. والواضح أنه كلما تضاءل دور الأجهزة الامنية الوطنية وضعفت إمكاناتها، تعرّضت الدولة لتهديدين كبيرين. يتمثّل الأوّل في التهديد الخارجي من قبل الدول الطامعة في السيطرة عليها لأسباب اقتصادية وسياسية. أما التهديد الثاني فهو داخلي، أي رغبة فئة من المواطنين في السيطرة على فئات أخرى لأسباب عرقية أو إثنية أو دينية أو إجتماعية.

يجدر القول هنا أن الأمن المجتمعي هو مفتاح الإنماء، والعلاقة سببية بين الإثنين لأن تحقّق الأمن داخل الدولة يجذب الإستثمار الذي يخلق فرص عمل، ويؤدي حتماً الى الإزدهار، وهو حقاً مظهر من مظاهر قوة الدولة.

وإنسجاماً مع هذه المقاربة أشير هنا الى أني حضرت ندوة في الكويت عن دور دولة الكويت في مجلس الأمن للعام 2018-2019، وما لفتت انتباهي يومها مُداخلة أجراها أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الاميركية الدكتور غانم النجار، وأختصر في ما يلي أهم ما جاء فيها:

  • تؤمن الكويت في السياسة الخارجية التي هي الأساس، ورُغم أنها دولة صغيرة فإنها تستطيع أن تُوظّف مهارتها وتساهم في المجال الدولي. وأعطى مثلاً كيف أن لبنان دولة صغيرة، لكن بفضل حضوره الدولي ومهارته ساهم السفير شارل مالك اللبناني، عندما كان مندوباً للبنان لدى الأمم المتحدة، في صياغة الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948.
  • إن الجيش الكويتي قادر على تعطيل جيش العدو، لكن الكويت تعتقد أن الديبلوماسية هي خطّ الدفاع الأول عن أمنها، وإن أي شيء آخر هو عاملٌ مساعد.
  • وإن الكويت كانت في الماضي تدخل في تحالفات دولية، لكن سياستها الحالية هي الوساطة والإعتدال.

ولا بدّ لي من الإشارة هنا الى أن الصين قد تبنّت في العام 2006 استراتيجية سياسية فاعلة، و يصح أن نلقي الأضواء عليها علّ السياسة الخارجية اللبنانية تقتدي بها:

بموجب هذه الإستراتيجية إرتكزت الصين على ثلاثة عناصر:

  • المفتاح: علاقات جيدة مع دول الجوار.
  • الأفضلية: علاقات ممتازة مع الدول العظمى.
  • الأساس: إقامة علاقات مميزة مع الدول النامية خصوصاً الدول الأفريقية.

تُمثّل هذه الأفكار الواردة أعلاه المدماك الثالث في إطار تحصين قوة الدولة، بخاصة الصغيرة، ونقصد بذلك توظيف طاقاتها ومهاراتها في السياسة الخارجية وتحديداً أهمية اعتماد الإعتدال وتجنّب الدخول في تحالفات دولية غير مُجدية.

أخيراً مما لا شك فيه أن ثقافة الخوف في أي مجتمع هي نتيجة الضعف أو الإفتقار إلى القوة المناسبة.

ولئن كنّا مقتنعين بأنّ القوة وحدها تحدّ القوة وأن وجود الحق يشترط دعم القوة له. فإننا على ثقة أنه لا سبيل لنا إلا بنشر ثقافة الأمل. ويجدر بنا ان نستَّل من الضعف قوة، أي القوة المعنوية للاستمرار في الحياة لأن اليأس لا يليق بالإنسان الشجاع مهما كان ضعيفاً.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو ديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى