“السيادية”؟ شخصيةُ الوزير لا الحقيبة

بقلم هنري زغيب*

بين محفوظات فرنسا لدى “المؤَسسة الوطنية للمرئيّ والمسموع” مقابلة تلفزيونية مع الجنرال شارل ديغول سنة 1965 (عشية الإنتخابات الرئاسية وإِمكان التجديد له ولايةً سُباعية ثانية). سأَله مُـحاوِرُه: “في حال لم يُجدِّد لك الشعب، يُقال إِن مؤَسسات الدولة ستكون في خطر”، فأَجاب ديغول: “المؤَسسات، كالدستور، غلاف خارجيّ. الأَساس: مَن يكون داخل هذه المؤَسسات ومَن يتولَّـى تطبيق الدستور كي تكون المؤَسسات وموادُّ الدستور في خدمة الشعب فلا يتصرَّف بها الحاكم ذاتيًّا بل غيريًّا لصالح الشعب. ومتى “استولى” السياسيون على المؤَسسات والدستور لا يعودون حاكمين شرعًا بل مُتحكِّمين زورًا فتنتهي الدولة وتسقط على رؤُوس الناس ساحقةً حاضرَهم ومستقبلَهم. لا خلاص للدولة إِلَّا بحاكمٍ مُستقلٍّ ليس ابنَ أَيٍّ من كُتَلها الحزبية بل ابنُ الشعب كلِّه كتلةً واحدة يعمل لها كأَنما لكلِّ فردٍ منها. يعمل للصالح الوطني العام فيكون الدستور حَكَمًا لا وجهة نظر مطَّاطة، ويعمُّ العدل في الدولة فيحميها دستورُها لا سياسيوها ولا تشكيلاتهم الحزبية والذاتية التي تطيح الدستور في أَيٍّ وقت لمنافعها الخاصة، وتتجاذبُ المواقفَ داخل الحكْم فتقع الكارثة الوطنية”.

يومها (19/12/1965) أَعاد الشعب انتخابَه لولايةٍ ثانية (حتى 1972). وحين اضطربَت الأَوضاع في البلاد وتعالَت احتجاجاتُ الشعب، فَرَض ديغول استفتاءً لبقائه أَو استقالته، حتى إِذا لم يَنَل نسبةً طَلَبها، قدَّم استقالته (28/4/1969) وانسحب إِلى بيته كبيرًا كما حَكَم كبيرًا.

الحاكم التاريخي يكون فوق الأَحزاب لا مِن بينها،  كي لا يكون مُنحازًا إِليها مُدافعًا عن مواقفها مُرتَـهَنًا لشعبيتها.

يظل الحاكم قويًا حازمًا حتى يفرض طلبات له أَو لحاشيته، فيَسقط وتَسقط معه حاشيته.

يكون الحاكم سياديًّا بمقدار ما يُصغي إِلى صوت الشعب.

وكما السيادية في الحكْم، كذا هي في الحكومة: “السيادية” ليست الحقيبةَ الوزارية بل الشخصيةُ التي تتولَّاها. ما نْفع حقيبة رئيسة يتولَّاها وزير ثانوي تنحصر “مواهبُهُ” في استزلامه لِمَن سمّاه فيبقى خادمًا على قَدَمَيه لا يجرُؤُ على اتخاذ قرار حتى يعود (وأَحيانًا بخروجه من جلسة الحكومة) ليسأَل زعيمه كيف يتعامل مع القرار المطروح؟

عشية تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان، عاد النهج القديم بين السياسيين في المحاصصة والزبائنية وتناتُش الحقائب الـمُتساندة وتناهُش المواقف الـمُتعانِدة.

بعد انفجار آب (أغسطس) وثورة تشرين الأول (أكتوبر)، لم يعُد هذا مقبولًا ولا هذا هو المطلوب.

المطلوبُ اليوم وزراء ينطلقون عكس التيار السائد، يتولَّون تصحيح المسار ووقف الانهيار.

المطلوبُ تقديم مواصفات الوزير على تكريم زعيمه، كي يخدم الوطن لا الزعيم الذي فرضه في الحكومة.

المطلوب وزراء يَصْفُقُون الباب في وجه سياسيين ذوي توصيات زبائنية.

المطلوبُ أَن يكون الوزير، بذاته، شخصية سيادية مُستقلّة خبيرة مُتخصصة فيتولى حقيبة اختصاصه.

هوذا اليوم خلاصُ لبنان من حظيرة يجب أَن يخرج منها سريعًا قبل أَن يُدخلَه السياسيون مجدَّدًا إِلى عَفَن هذه الحظيرة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني:email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني:  henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا المقال في أسواق العربتَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة النهار” – بيروت.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى