الوجوه المُتَعَدِّدة لفيروز في إيران

بقلم فيرناز سيفي*

بدأ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارته الثانية إلى لبنان منذ انفجار 4 آب (أغسطس) في بيروت، بلقاء الفنانة اللبنانية الأسطورية فيروز، وهي شخصية لا تزال حتى يومنا هذا، رُغم بلوغها ال85 عاماً، رمزاً لوحدة المجتمع في البلد. لكن أهميتها الرمزية تمتد إلى ما هو أبعد من لبنان، فهي تصل حتى إلى إيران.

أثبت حب فيروز أن الإيرانيين، على الرغم من خلافاتهم السياسية الشديدة، يُمكن أن يكون لديهم إهتمام مُشتَرَك. بعد الإنفجار القاتل في مرفأ بيروت – الذي أودى بحياة أكثر من 190 شخصاً وتشريد حوالي 300 ألف – كان أول ما فكّر فيه الإيرانيون للتعبير عن تعاطفهم هي أغنية فيروز الشهيرة “لبيروت”، والتي أصبحت “هشتاغاً” شائعاً على موقع تويتر الفارسي. وذكر ذلك وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، في تغريدته. كما روّجت جماعة مجاهدي خلق المُعارضة للأغنية على موقعها على الإنترنت. ومن جهتهم نشر متشددو النظام كلمات الأغنية فقط، في حين شارك الأكاديميون والمثقفون الإيرانيون في الخارج روابط لمقاطع فيديو تغني فيه فيروز “لبيروت” على موقع يوتيوب.

“عروس الشرق”

لا تزال بيروت، في مُخيّلة الإيرانيين، “عروس الشرق”. في اليوم التالي للإنفجار، إستخدمت غالبية الصحف الإيرانية، بغض النظر عن انتمائها السياسي، هذه الإستعارة على صفحتها الأولى من خلال عناوين رئيسة مثل “عروس النار” و”العروس الجريحة” و”عروس الشرق في ملابس الحداد”. ومع ذلك، إذا كانت استعارة العروس هي السائدة في العناوين الرئيسة، فإن فيروز كانت أكثر المجازات شيوعاً المُشار إليها في متن المقالات. ونقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية (إرنا) الرسمية عن صحيفة وطنية أخرى أن “لبنان ليس للبنانيين فقط، فكل من استمع إلى فيروز وسافر بصوتها هو لبناني”.

بالمقارنة مع المطربين العرب الآخرين، حاز اللبنانيون على الإعجاب الأكبر بين الإيرانيين. وقد حظيت فنانات مثل نانسي عجرم وهيفاء وهبي وإليسا ونجوى كرم بشعبية واسعة، في حين أن النخبة الثقافية، التي ترغب في إظهار ذوقها العالمي الراقي، تشير إلى أعمال مارسيل خليفة، وعبير نعمة، أو أخيراً فرقة “إندي روك” في مشروع ليلى. على الرغم من ذلك، فإن فيروز هي التي حافظت على مكانة خاصة خلال العقود الستة الماضية بين النُخب وعامة الناس على حد سواء في إيران.

“بنت الشلبية”

في الواقع، قدمت المطربة اللبنانية مُساهمةً مهمة في ثقافة البوب ​​الإيرانية التي نادراً ما يتم الإعتراف بها. غنّت فيروز أغنية “بنت الشلبية” وهي في العشرينات من عمرها ولم تكن مشهورة بعد. كان ذلك خلال خمسينات القرن الفائت، عندما دخلت بيروت عصرها الذهبي وكانت مقصداً لكثير من الإيرانيين. في إحدى هذه الرحلات، أحضر موسيقي ومُلحّن إيراني بارز أسطوانة موسيقية لفيروز إلى الوطن، حيث تم أداء الأغنية بكلمات فارسية مُختلفة. في مزاج مليء باليأس الإيراني بعد انقلاب 1953 ضد رئيس الوزراء محمد مصدق، سرعان ما أصبحت الأغنية ناجحة؛ وقد تم غناؤها أولاً بشكل ثنائي من قبل نجمين صاعدين، فيغوين (Viguen) وبوران (Pouran)، ولاحقاً من قبل العديد من مطربي البوب ​​الإيرانيين الآخرين. فيروز لم تُحيِ قط حفلة موسيقية في إيران، لكن المغنية الإيرانية غوغوش قدمت نسخة فيروز من “بنت الشلبية” خلال زيارة لها في العام 1977 إلى بغداد، بعد فترة وجيزة من التقارب بين إيران والعراق بعد توقيع اتفاقية الجزائر. في العام 2013، قامت ريتا، وهي مغنية إيرانية المولد، بأداء النسخة الفارسية من الأغنية في قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة. مرة أخرى وبدون طلب ذلك، إنجرّ لبنان إلى وسط الصراع بين إيران وإسرائيل.

كانت شعبية فيروز أقوى من التقوى الإسلامية لإيران ما بعد الثورة. كان العام 1983 من أسوأ الأعوام بالنسبة إلى المنشورات الإيرانية: تم حظر الصحافة المستقلة، وفُرضت قوانين رقابة شديدة. وقد منع النظام الجديد النساء من الغناء في الأماكن العامة. كان نشر الأخبار عن المطربين الأجانب بمثابة تشجيعٍ للفحش. في ظل هذه الظروف، خصصت مجلة “قاموس” التي تم إنشاؤها حديثاً، والتي تُديرها مجموعة من الفنانين الشباب المؤيدين للنظام الإسلامي، أربع صفحات لأغنية فيروز “القدس” وأشادت بها باعتبارها “أكثر الأعمال الرائعة والملحمية لهذه الفنانة الشهيرة”.

فيروز والسياسة الإيرانية

واصل المُتشدّدون الإيرانيون تفضيل فيروز طوال هذه السنوات. في كانون الأول (ديسمبر) 2013، قامت “تسنيم”، وهي وكالة أنباء لها صلات بالحرس الثوري الإيراني، بتغطية الأخبار التي تُفيد بأن فيروز وابنها زياد الرحباني قد أيّدا السيد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله” في لبنان. بعد زيارة ماكرون، شارك أنصار نصر الله في إيران صورة معدلة بالفوتوشوب للقائه مع فيروز حيث تم وضع صورة كبيرة لزعيم “حزب الله” على جدار غرفة جلوسها. حتى أن الصورة خدعت وزير الثقافة الإيراني السابق في الإدارة الإصلاحية لمحمد خاتمي، عطاء الله مهاجراني، الذي يعيش الآن في منفى اختياري في المملكة المتحدة. وفي تغريدة حذفها لاحقاً، حيّا فيروز على “حسن توقيتها وحكمتها”، لأنها حرصت على أن يكون لزعيم “حزب الله” “حضور ملون” أثناء زيارة ماكرون.

في العام 2016، استغل الإصلاحيون شعبية فيروز في محاولةٍ لتشجيع خصومهم المُتشدّدين على زيادة التسامح الثقافي. في خطاب ألقاه محمود دعائي، رجل الدين الذي أشرف على صحيفة “إطلاعات” الوطنية لما يقرب من أربعة عقود، إستذكر قصة الزعيم الديني اللبناني الإيراني الإمام موسى الصدر. في رحلة إلى مصر، علم الصدر أن فيروز كانت في المدينة لإحياء حفلٍ موسيقي. وعندما أبدى اهتمامه بالحضور، أقامت له فيروز حفلاً خاصاً بدلاً من ذلك. لقد زارت فيروز القاهرة في العام 1976، في الوقت الذي كان يزورها الصدر، لكن ما يهم هنا هي أخلاقيات القصة وليس الحقائق. حرص دعائي على التأكيد على أن الصدر فعل جيداً في سماع فيروز وهي تُغني لأنها لم تكن مغنية بوب نموذجية. بالأحرى، حسب قوله، “كانت هي وموسيقيوها من عائلات محترمة طاهرة وفاضلة في كل شيء”. في هذا التوضيح الذي يبدو بسيطاً، يرى المرء حدود التقدمية في الخطاب الإصلاحي الإيراني، الذي لا يزال مهووساً بقواعد الإحتشام عندما يتعلق الأمر بقضايا المرأة.

ومن المفارقات أن السياسيين الإيرانيين يشيرون إلى فيروز ويثنون عليها بينما لا تزال أغانيها، إلى جانب أغاني المطربات الأخريات، ممنوعة على قنوات الإذاعة والتلفزيون الإيرانية. قاومت النساء الإيرانيات هذا الحظر بطرق مختلفة: من خلال تنظيم حفلات موسيقية خاصة، والذهاب إفرادياً من دون سابق إنذار إلى العروض التي يؤدي فيها المغنون والموسيقيون الذكور، وأخيراً من طريق تسجيل أعمالهن وإصدارها مباشرة على وسائل التواصل الإجتماعي. في غضون ذلك، بقيت فيروز طوال هذه السنوات حاضرة باستمرار في النظرة الإيرانية إلى لبنان، سواء في السياسة النخبوية أو في الثقافة الشعبية.

  • فيرناز سيفي هي كاتبة مقالات ومُستشارة مستقلة عملت في منعطف الجنس والإعلام مع العديد من المنظمات الدولية وأصحاب المصلحة في إيران وأوروبا والولايات المتحدة. الآراء الواردة في هذه المقالة خاصة بها.
  • كُتِبت هذه المقالة بالإنكليزية وعرّبها قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى