إنتفاضة اللبنانيين بين نقاوة المطالب وسيناريوهات الإستغلال

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

إن النضال من أجل التغيير، وهو سنّة الحياة، لا يُمكن أن يكون ظرفياً أو عفوياً أو مؤقتاً، ولكنه يجب أن يأخذ في الاعتبار المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية وأن يبني استراتيجيته وتكتيكاته على أساسها. هو عملية مُستمرّة تحتاج الى قيادات وأحزاب وتيارات وقوى واعية تؤمن أن الجمودَ مَوتٌ وأن التجديدَ في كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية هو المدخل الطبيعي لتلبية تطلّعات الشباب وآمالها.

ومنذ عقود تُطالب الأحزاب والقوى والحركات الديموقراطية العلمانية اللبنانية بتغيير النظام القائم، وبمحاربة الطائفية والزبائنية والمحاصصة والفساد والنهب المُنظّم للمال العام، وبديموقراطية التعليم، والعدالة الإجتماعية، وضمان الشيخوخة وتأمين فرص العمل، وبفصل الدين عن الدولة وإقامة الدولة المدنية.

وفي كل المحاولات السابقة التي جرت لإحداث تغيير، ولو محدود، في بنية النظام كانت هذه القوى تصطدم بتحالف المنظومة الطائفية وأصحاب الرساميل الذين كانوا يُجهِضون التحرّكات من خلال ما يملكون من أدوات سياسية ومالية وإعلامية ومن دعم خارجي.

واليوم بعدما تفاقمت الأزمة الإقتصادية والمالية والمعيشية وانهارت الرواتب والأجور، وفُرِضت العقوبات على أطرافٍ لبنانية وأغلقت المصارف أبوابها على مُدّخرات المودعين وجنى أعمارهم، وبعدما دبّ الهلع والخوف بين المواطنين من مجاعةٍ بدأت تباشيرها، وبعدما أقدم السياسيون الفاسدون وأصحاب المصارف على إخراج مليارات الدولارات إلى مصارف أجنبية بالتواطؤ مع الحاكم بأمره في المصرف المركزي، برزت أزمة الحصول على الدولار لدفع ثمن استيراد المواد الأوّلية والسلع الحيوية من قمح ودواء ومحروقات وغير ذلك. وكانت النتيجة، بعد قرارات حكومية مُترَدّدة وخجولة، إنفجار الوضع، رغم حالة التعبئة العامة بسبب وباء كورونا، ونزول الناس مُجدَّداً إلى الشوارع والساحات في مشهد يُعبّر عن صورة رسمتها الآلام والأوجاع والعجز عند شرائح واسعة من اللبنانيين عن تأمين أبسط متطلبات الحياة الحرة الكريمة.

ومنذ اليوم الأول لانتفاضة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) حذّر عقلاءٌ كثيرون من رفع سقف المطالب عالياً ومن أمكانية استغلال وجع الناس من قبل جهات داخلية وخارجية لها أجنداتها الخاصة المُرتبطة بالصراعات والتحوّلات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. ذلك أن التغيير الجذري الشامل في لبنان، خصوصاً في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المنطقة، دونه صعوبات متنوعة تعود لأسباب كثيرة أبرزها:

أولاً: يضم لبنان ثماني عشرة طائفة لها مصالحها ومشاريعها المتناقضة وتحالفاتها الداخلية والخارجية التي بنتها عبر التاريخ. وعلى الأرض اللبنانية يوجد ٥٠٠ ألف لاجىء فلسطيني يتوزّعون على عشرة مخيمات بعضها يعج بكل أنواع الأسلحة، وأُضيف إلى الفلسطينيين في السنوات الأخيرة حوالي ١،٥ مليون نازح سوري يتوزّعون على ١٢٠٠ مخيم ينتشرون عشوائياً في مختلف المناطق اللبنانية. وتُشكّل المخيمات الفلسطينية والسورية وأحزمة الفقر حول المدن البيئة الأمثل لأجهزة المخابرات العالمية. أضف إلى ذلك أن لبنان واقع جغرافياً بين سوريا ونيرانها المشتعلة وبين العدو الإسرائيلي وأطماعه وتهديداته الدائمة. فهل يُمكن طرح تغيير جذري في هذه التركيبة المُتفجّرة، وفي دولة تتحكّم سفارات غربية وعربية وعلى رأسها السفارة الأميركية بغالبية قراراتها الاستراتيجية؟

ثانياً: يدور صراعٌ حاد بين القوى الإقليمية والدولية الكبرى للسيطرة على المنطقة وخيراتها. ولبنان بموقعه الجغرافي وبنفطه يشكل ساحة من ساحات الصراع المتشابكة والمترابطة، من اليمن إلى ليبيا مروراً بسوريا والعراق. ولا يُمكن إحداث تغيير جذري في لبنان قبل أن تتوضّح مناطق النفوذ على خارطة المنطقة الجديدة التي يجري تركيبها. ومَن ينظر إلى الواقع اللبناني ويتعامل معه، ولو من بابٍ مطلبي، على أنه دولة مستقلة وذات سيادة، لا تتأثر بالنيران المشتعلة حولها، يكون بعيداً من الواقع ويعيش في الخيال.

ثالثاً: هناك قوى وتيارات وحركات إجتماعة وأحزاب تضم مجموعات شبابية طموحة تدعو إلى إحداث تغيير في هذا النظام، وهي شكّلت النواة الأساسية لانتفاضة ١٧ تشرين الأول (أكتوبر)، وهؤلاء صادقون في أهدافهم وشرفاء في وسائل عملهم وأنقياء في سلوكياتهم، ولكن هناك أيضاً جمعيات وتنظيمات نبتت كالفطر خلال العقود الثلاثة الماضية، ترفع شعارات إنسانية وإنمائية، ولكن لا أحد يعرف من أين تأتي بأموالها وما هي أهدافها الحقيقية. تُضاف إلى هذين الفريقين الأحزاب التي ولدت من رحم الميليشيات والتي ترتبط بأجندات خارجية مشبوهة. هذه الأحزاب التي قتلت ودمرت وهجّرت اللبنانيين وحكمت خلال العقود الماضية وسرقت الأموال العامة تُحاول اليوم استغلال وجع الشعب اللبناني.

رابعاً: إن مراقبة دقيقة لمسار الانتفاضة التي إنطلقت في ١٧ تشرين الأول، والتي عمّت كل أرجاء الوطن، تظهر وجود ساحات وتجمّعات ترفع شعارات مختلفة الأشكال والأنواع، من الثورة وإسقاط النظام وصولاً إلى تعيين مأموري الأحراج الناجحين في مباراة مجلس الخدمة المدنية، مروراً بتغيير الحكومة ورفع السرية المصرفية واستعادة الأموال المنهوبة. وبرزت في الأسابيع الماضية دعوات مشبوهة لنزع سلاح “حزب الله” ووضع لبنان تحت البند السابع ووصاية مجلس الأمن الدولي.

إن تعدّد الجماعات وتنوّعها واختلاف أهدافها وتمويلها (من جيوب المتظاهرين أو من سفارات) منع، ولا يزال، تشكيل قيادة مُوَحَّدة للإنتفاضة توحّد المطالب، وفق أولويات، وتسعى لمفاوضة السلطة لتحقيقها. وهذا ما شكّل نقطة ضعف أساسية هدّدت الحراك وصدق تعبيره عن آلام الناس.

خامساً: لقد أدى انتشار وباء كورونا إلى فرض التعبئة العامة وما رافقها من إقفال شامل للمؤسسات وتراجعٍ للنشاط الإقتصادي وانتشار للبطالة (حوالي 100 ألف عاطل جديد من العمل) وإلى تعمّق الأزمة الإقتصادية المعيشية، وارتفاع حالة التذمّر والشكوى بين الناس، خصوصاً بعد انهيار القوة الشرائية للعملة اللبنانية. واليوم بعد عودة المتظاهرين إلى الساحات وقيام بعض المجموعات بالدعوة إلى تنظيم التظاهرات وإلى قطع الطرقات وشلّ الدورة الاقتصادية وإقفال المؤسسات وصولاً إلى العصيان المدني يطرح السؤال: الإنتفاضة إلى أين وما هي التطورات المُرتَقبة؟

هناك سيناريوهات عديدة مُتَوَقَّعة لتطور الأمور في الأيام المقبلة.

الأول: هو نزول المُحتَجّين إلى الشوارع وعدم العودة إلى البيوت إلّا بعد صدور قرارات ومراسيم وقوانين واتخاذ إجراءات عملية تضع السياسيين الفاسدين السارقين وأصحاب المصارف في السجون، وتُعيد الأموال والودائع المنهوبة وتضع أسس لبنان الجديد. وبذلك تكون السلطة، بكل مكوّناتها قد وعت للأخطار المُحدقة واستشعرت حالة القرف التي يعيشها الناس منها ومن فسادها ونفاقها فبادرت إلى تنفيذ الخطوات التي تُلبّي طموحات المتظاهرين والمحتجين وتُحقّق بعض ما يحلمون به من حقوقٍ إنسانية ومن عدالة اجتماعية. وهذا سيكون نتيجة وعي الطبقة السياسية، بأن المركب سيغرق وسيأخذ معه كل تاريخها وأمجادها ومستقبلها. وبذلك تتجنّب سيلاً جارفاً في المستقبل يقضي عليها وعلى كل سياساتها.

الثاني: وصول الإنتفاضة والتحركات الشعبية إلى مأزق نتيجة التعنّت والمكابرة وعدم الإعتراف من قبل منظومة الفساد السياسي والمصرفي والمالي بما ارتكبت من جرائم، وهذا يُمكن أن يؤدّي الى إحباط وغضب عند شرائح واسعة من المتظاهرين الشرفاء الذين ملأوا الساحات. هذا الإحباط يُمكن أن يُترجَم بالهجرة للقادرين على ذلك أو بعمليات عنفية متفرقة تقوم بها مجموعات صغيرة ضد رموز النهب والفساد وضد الأملاك العامة والخاصة لتنفيس احتقانها وغضبها.

الثالث: وهو الأخطر، ان يقوم طرف ما بافتعال أحداث امنية تنفيذاً لمخطط خارجي بهدف إشعال فتنة في لبنان تستهدف سلاح “حزب الله”. وهذا الأمر ليس صعباً في ظل المعطيات التي ذكرناها سابقاً. ولكن الفتنة إذا ما اشتعلت ستكون لها آثارٌ مدمّرة على حاضر لبنان ومستقبله، وستفرز واقعاً جديدا يقضي على أحلام الكثيرين ومخططاتهم، ولكنها يمكن أن تخدم مصالح بعض الدول التي تعمل على إعادة هندسة وبناء منطقة الشرق الاوسط. فهل يقبل اللبنانيون ان يكونوا مجدداً وقوداً لتحقيق مشاريع مشبوهة؟

  • الدكتور هيكل الراعي هو باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى