لبنان: الطريق مفتوح إلى عدم الإستقرار المالي

بيروت – رئيف عمرو

في الأشهر الأخيرة إهتزت قواعد المشهد السياسي والإعلامي في لبنان بسبب شيء وحيد تلهث وراءه البلاد: المال، أو بالأحرى غيابه.
بالنسبة إلى اللبنانيين، تميزت هذه الفترة بكشف شبه يومي عن عمليات فساد. لقد حاصر الفساد أزمة القمامة التي بدأت في تموز (يوليو) الماضي وتم حلها قبل أسابيع قليلة فقط. وقد وصل الفساد أيضاً إلى قطاع الإنترنت، كما كان وراء شبكة دعارة على ما يبدو تتمتع بحماية رسمية.
في قطاع الإعلام، في الوقت عينه، واجه معظم الصحف صعوبات مالية خطيرة، مع إعلان جريدة “السفير” الشهر الماضي أنها تنوي الإغلاق. وقد إنعكس القرار لاحقاً، ولكن من غير الواضح ما إذا كان ذلك بسبب ضخ الأموال أو لأن المالك يتوقع دفعة جديدة.
وهذه القضايا المتباينة ترتبط معاً من طريق الإعتماد، الذي إعتاد عليه لبنان، على أموال الخارج، ولا سيما من دول الخليج، لتمويل السياسيين ووسائل الإعلام. في الآونة الأخيرة، في ظل غياب هذه الأموال، لمجموعة متنوعة من الأسباب، ليس أقلها إنخفاض أسعار النفط، فإن التمويل السياسي قد إنخفض بشكل حاد، وخصوصاً أنه كان على السياسيين البحث عن مصادر بديلة للتمويل.
وقد تفاقم هذا الوضع بسبب التباطؤ الاقتصادي الحاد في لبنان بسبب الحرب في سوريا. لم تتمكن البلاد تصدير منتجاتها الزراعية براً؛ وقطاعها السياحي المربح قد جفّت عائداته، وبُنيتها التحتية الضعيفة أصلاً، تعاني من ضغط أكثر من 1.2 مليون لاجئ سوري، الأمر الذي وضع أعباء إضافية على السكان، الذين غالباً ما يدفعون مقابل الخدمات الأساسية مرتين – مرة للدولة، وأخرى لمقدمي الخدمات الخاصة.
عندما كان لا يزال لبنان يُعتبر خط جبهة أمامية في المنافسات والأجندات الإقليمية، كانت الدول العربية تغرق البلاد بالأموال. وكان هذا صحيحاً خلال ما يسمى ب “الحرب الباردة العربية” في خمسينات وستينات القرن الفائت، وخلال الفترة عندما كانت الجماعات الفلسطينية المسلحة موجودة في سبعينات القرن الفائت، ومرة أخرى بعد حرب لبنان في تسعينات القرن العشرين، عندما جذبت إعادة الإعمار الإستثمار الإقليمي.
في السنوات الأخيرة، مع ذلك، تغيرت الأمور. جيل جديد من القادة في الخليج أثبت أنه أقل تقبلاً لفكرة شراء النفوذ في لبنان. وسط صراع إقليمي على السلطة والهيمنة مع إيران الذي زاد جرّاء الإتفاق النووي الذي سمح بإصلاح العلاقات بين الغرب وطهران، فقد شعرت دول الخليج أنها مُعرّضة على نحو متزايد.
في هذا السياق، صار يُنظَر إلى لبنان على نحو متزايد على أنه بؤرة إستيطانية تحت سيطرة “حزب الله” وإيران. وكان أفضل مثال على هذا الأمر هو موقف المملكة العربية السعودية في شباط (فبراير) عندما علّقت حزمة المساعدات العسكرية البالغة 3 مليارات دولار للجيش اللبناني. وكان التفسير الذي قدمه جنرال سعودي أن المملكة لا تريد أن تقع الأسلحة في أيدي “حزب الله”.
كان هذا الكلام مخادعاً وغير دقيق، لأن الجيش اللبناني كان حريصاً دائماً على الحفاظ على السيطرة على ترسانته، ولكن الحلقة أظهرت كيف يُنظَر إلى لبنان الآن في المملكة. وقد رافق ذلك قرار لدول مجلس التعاون الخليجي لترحيل أشخاص لهم صلة مع “حزب الله”، وهو قرار يؤثر في كثير من المغتربين اللبنانيين.
في هذه البيئة، كان السياسيون اللبنانيون الذين يموّلون شبكات محسوبياتهم الواسعة من المال الخارجي هم أكبر الخاسرين. مع الإقتصاد المحلي في أزمة، فقد تقلّصت فطيرة المال المحلية. وقد دفع هذا الوضع بالقادة المُبدعين للنظر في سُبل جديدة للحصول على المال.
أزمة القمامة التي بدأت في صيف العام 2015، وإنتهت هذه السنة هي مثال على ذلك. ويُعتقَد على نطاق واسع أن الهدف الرئيسي في خلق الأزمة كان لضمان إعادة توزيع عائدات جمع القمامة. وكانت هذه عالية نظراً إلى إرتفاع سعر الطن الواحد الذي تتقاضاه الشركة التي كانت تحتكر جمع القمامة في بيروت وجبل لبنان.
يقول البعض أن الأسعار كان يجب أن تكون مرتفعة لدفع رشاوى لقوى سياسية مختلفة. لكن، فيما بات المال شحيحاً، وإنتهى عقد الشركة، رأى بعض السياسيين الفرصة سانحة لأخذ المال بطريقة أكثر مباشرة من خلال إدراج شركاتهم الخاصة في عملية جمع القمامة.
في حين أن تعقيد القضية لم يسمح تماماً بمثل هذه النتيجة، كان بيت القصيد واضحاً بالنسبة الى اللبنانيين: إنهم قد أمضوا أشهراً غارقين في القمامة لأن السياسيين كانوا يتقاتلون على إعادة توزيع الغنائم.
والشيء نفسه ينطبق على فضيحة الإنترنت أخيراً. حتى أن المتخصّصين قد وصفوا ما حدث بأنه معقّد للغاية. ولكن النتيجة هي أن كبار المسؤولين على ما يبدو إستفادوا من الشركة التي تبيع “عرض النطاق الترددي” (bandwidth) بسعر أقل من شركة أوجيرو الحكومية، التي، رسمياً، تحتكر توزيع “عرض النطاق الترددي”.
ومن بين عملائها كانت مؤسسات الدولة الرئيسية. وهذا يعني أن المؤسسات الرسمية تشارك، ربما عن غير قصد، في مشروع الإحتيال على الحكومة.
لا يمكن وضع كل الفضائح على باب المحسوبية. جشع بسيط هو عادة ما يكفي. ولكن الرعاية أمر حيوي لأنها بمجرد أن تتلاشى تلك القوة، فإن القدرة على تأمين التمويل تتلاشى أيضاً.
ولكن يمكن لجميع اللبنانيين أن يروا ويلاحظوا أن بلدهم، الذي هو على وشك الإفلاس، يجري نهبه من قبل ساسته. إن التأثير الخطير في الإستقرار المالي هو حقيقي جداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى