لبنان: الخطة الإقتصادية بين الشرعيّة الأخلاقية وشرعيّة الشارع

بقلم البروفسور بيار الخوري*

أقرّت الحكومة اللبنانية في الأسبوع الماضي خطةً إقتصادية للتعامل مع انهيار النظام الإقتصادي اللبناني، والذي بدأ مع أزمة نَدرة العملات الاجنبية وتدنَي السيولة في المصارف وأدّى إلى سلوكٍ غريب لكل مراكز النظام المصرفي من عامة وخاصة، وأفرز سلوكَ “مقاطعجي” في التعاطي مع ثروات ومداخيل اللبنانيين من دون أيّ مِعيارٍ قانوني.

قبل إعلان الخطة كان اللبنانيون فقدوا من قيمة أجورهم اكثر من ٦٠٪ بسبب ارتباط التضخم بسعر صرف الليرة اللبنانية في السوق الحرة في بلدٍ يرتبط اقتصاده بالدولار الأميركي منذ ثمانينات القرن الفائت.

كما انطبقت نسبة الخسارة عينها على ودائع اللبنانيين واكتتاباتهم بسندات الخزينة بالليرة اللبنانية. وقبل إعلان الخطة الإقتصادية كانت السلطة النقدية تتجه إلى تسييل كل الودائع وبالعملات المختلفة بالليرة اللبنانية وبسعرِ صرفٍ يُدعى زوراً سعر السوق، وهو يختلف ويَفرُق عن سعر السوق بحوالي ٢٥٪، ولم تكن هناك ضمانة في أيّ حال أن هذا الفارق لن يتّسع.

لقد حصل ذلك في ظل بيئة مُتفلّتة من أيّ حَوكمة أو قانون يَرعى إعادة توزيع أعباء الأزمة. ولو قُدّر لهذه المقاربة ان تستمر لكنّا شَهدنا تحويلاً كاملاً لأعباء الأزمة يُستَثنى منه القطاع المصرفي والمنظومة المالية وفئة الواحد في المئة التي حوّلت أموالها الى الخارج.

الخطة المالية الإقتصادية للحكومة تحتوي مخاطر كبيرة، خصوصاً لناحية مُناقشة البدائل في حال فشل التفاوض مع المُقرضين والدائنين والمانحين المُحتَمَلين. لكن الخطةَ فيها جوهرٌ أساس يقوم على تشريحٍ علمي للأزمة من دون مواربة، ووضع اليد على الإختلالات الرئيسة في النموذج المالي الإقتصادي وهو ما تهرّبت من الإعتراف به الحكومات المُتعاقبة. لذلك كانت الخطة واضحة في توزيع الأعباء بدءاً من القطاع المصرفي، الى الأموال المُحوَّلة الى الخارج إعتباراً من العام الماضي، إلى كبار المُودعين الى… الأموال المنهوبة.

لقد احتوَت البيانات المعروضة على مُحاكاةٍ عدة تمتد حتى خمس سنوات، وتتضمّن أثر مُساهمة المصارف والأموال المُحَوَّلة إلى الخارج وكبار المودعين وحَمَلة السندات في تحمّل كلٍّ منهم حصته من إعادة توزيع أعباء الأزمة، لكنّها لم تنجح في إدخال أثر استعادة الأموال المنهوبة في أي مُحاكاة.

تقرّ الخطة بالإنحدار الإجتماعي الذي حصل نتيجة انفجار الأزمة، وتتحدّث عن نِسَبِ فقرٍ تُقارب ٦٠٪، وتبني آلياتها على برامج دعم الأُسَر المُنحدرة نتيجة الأزمة. إن نسب الفقر المذكورة تتأثر أيضاً ببعض أجزاء الخطة، وأخصّها استمرار تفلّت سعر الصرف في السوق الحرة، ونِسَب التصخّم المُقدَّرة، وإعادة هيكلة الوظائف الإجتماعية للقطاع العام، ونظام التقاعد، والزيادات الضريبية.

الأكلاف الإجتماعية لبرامج التصحيح الهيكلي معروفة عالمياً، لكنها ستكون أشدّ وطأةً في بلد لم يعتد على التخطيط الإقتصادي ولا يتوقّع تدفّق رساميل قوية تُلطّف أثر برامج الإصلاح. لذلك يكتسب البُعدُ الأخلاقي للخطة الموئل الوحيد لتلطيف تداعياتها.

إن كلمات مثل الصبر وضرورة الإصلاح والتضحية باليوم من اجل الغد لا يُمكن أن يكون لها معنى قوي بدون بُعدٍ أخلاقي قوي يخلق الدافع للتضحية لدى الشعب اللبناني. ذلك البُعد الأخلاقي يبدو مُرتبطاً حصراً بما ستفعله هذه الحكومة بمعضلة الأموال المسروقة أو المنهوبة. إن الشعب يعرف أنه سُرق، ويعرف ان سارقيه يحظون بالحظوة الأكبر في البلاد، وعلى الرغم من أن الوعي الطائفي يُعرقل توجيه مضبطة اتهامٍ وطنية بوجه الفساد، فإن الإنجاز في هذا المجال لم يعد من الممكن تجاهله.

إن الحكومة قادرة على صناعة أكثرية وطنية جديدة في البلد إذا ما استطاعت تجنيد نفسها في موضوع الفساد كما جنّدت نفسها في المواجهة المُشرّفة مع الجائحة.

الناس ينتظرون، وقد جعلهم هذا النظام عاجزين عن المبادرة سوى في ما نراه اليوم من حرقٍ وتخريب ومواجهات غاضبة مع القوى الأمنية، وهذا السلوك يحمل خطراً كبيراً للنزوع الى الفوضى في ظل الإنحدار الإجتماعي السريع. وحدها الحرب على الفساد وسيادة الشفافية والمحاسبة قادرة على خلق نواة صلبة تمنع البلد من الإنزلاق الى ما لا تُحمد عقباه. الشرعية الأخلاقية للخطة الإقتصادية وحدها أقوى من شرعيّة الشارع الغاضب.

  • البروفسور بيار الخوري هو أكاديمي وباحث لبناني في الإقتصاد السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى