الحاجة إلى عقدٍ وطنيٍّ جديد

الدكتور فيليب سالم*

… وكَيفَ وَصَلنا إلى هنا؟ إلى هذا القعر! الى هذا الذلّ! شعبٌ يملأ الدنيا ويُعمّرها. طبيعةٌ ساحرة تمتدّ من السماء الى البحر. وحضارة هي أيقونة الشرق. كيف يَنحَدِرُ وطنٌ كهذا الى هذا الدرك؟ وكيف يُهانُ شعبٌ بكامله؟ شعبٌ ليوم البارحة كان يفوحُ عنفواناً وكرامة. يقولون: الفساد. وهذا صحيح. إنه الفساد. لكن الفساد المالي الذي نتكلم عنه كل يوم ما هو إلّا نتيجة لفساد أعظم وأخطر ألا وهو الفساد السياسي. السياسة هي العلّة الأساسية، وهي المرض. وما المأساة الإقتصادية التي نعيشها اليوم إلّا عارضاً واحداً من أعراض هذا المرض. إن السياسات التي تبنّتها الحكومات اللبنانية المُتعاقبة هي التي أوصلتنا إلى هنا. فانعدمت ثقة المواطن بالدولة، كما انعدمت ثقة العالم بلبنان، وانعدم احترام العالم للدولة اللبنانية.

وكيف يَحترمُ العالم دولةً تسرق شعبها؟ دولة لا تحترم سيادتها؟ لبنانيون يبيعون الأرض وكرامة الناس ويتحالفون مع دول وقوى خارجية للاستقواء على إخوانهم في الداخل، وللتسلّق إلى السلطة. لقد زال الحدّ الفاصل بين دولة لبنان ودويلة “حزب الله”، وأصبح لبنان معزولاً في محيطه العربي وفي العالم الغربي. لقد نَسي العالم لبنان العظيم المُتجذّر في التاريخ والمُنتشر في الأرض وصاحب الحضارة الفريدة في الشرق. نحن نحترم “حزب الله” ونحترم رجاله. ولن ننسى تحريره أرض الجنوب من العدو الإسرائيلي، لذا نقف بإجلال أمام شهدائه. إلّاأاننا لن نسمح له بإلغاء دور لبنان العظيم في الشرق وفي العالم. نحن على اختلاف عميق مع فلسفة الثورة الإسلامية الإيرانية. فنحن لا نؤمن بمزج الدين بالسياسة. إن هذا المزيج هو السمّ الذي يقتل شعوب المنطقة. نحن نعمل جاهدين لفصل الدين عن السياسة وإقامة دولة مدنية في لبنان. إن الدولة التي تُحدّد المواطن بدينه أو بطائفته تهينه لأن الإنسان أكبر بكثير من انتمائه الديني. لقد عانى هذا الشرق الكثير من الآلام بسبب استعمال الدين كأداة سياسية. أُنظروا من حولكم فماذا ترون؟ ترون مسلمين يقتلون مسلمين ويتعدون على دين الإسلام. ومسيحيين يهربون من بلادهم الى بلاد الله الواسعة. وترون إسرائيليين يُقيمون دولة لليهود وحدهم من دون غيرهم. نحن نرفض تصنيف البشر حسب دينهم لأننا نؤمن بأن الله يُعانق كل البشر بمحبته، ولا يُميّز بينهم.

ونختلف أيضاً مع الثورة الإسلامية لأنها حضارة أحادية ولبنان هو موئل التعددية الحضارية التي هي معنى لبنان ومعنى رسالته. وحده لبنان من كل دول الشرق، بما فيها إسرائيل والعالم العربي وإيران وباكستان وأفغانستان، هو نموذج للتعددية الحضارية. نموذجٌ لمعانقة الآخر واحترامه. وهنا لا نتكلم فقط على التعددية الدينية، بل نتكلم على ما هو أهم، التعددية الحضارية. هنا في هذه البقعة الصغيرة من الأرض تتعايش جميع الحضارات وجميع الأديان بسلام واحترام.

وعلى رغم اختلافنا الفكري مع فلسفة الثورة الإيرانية الإسلامية، أود ان أتوجه الى “حزب الله” وأقول لهم إن الأهل قد يختلفون في الرأي في ما بينهم لكنهم يبقون في النهاية أهلاً. نَحنُ وإياكم أهل هذه الأرض. ونصرّ على ان نبقى أهلاً. فتعالوا نجلس إلى طاولة واحدة ونتعهّد أمام الله إنقاذ لبنان وإعادته الى الحياة. أنتم تعرفون جيداً أنه إذا سقط لبنان هذه المرة لن يكون في سقوطه غالب ومغلوب، بل سنكون جميعاً مغلوبين.

إن الطريق الى خلاص لبنان يبدأ بالإتفاق على عقدٍ وطنيٍّ جديد بيننا وبينكم، تكون فيه سيادة لبنان مُقدَّسة، ويكون قرار الحرب والسلم في يد الدولة اللبنانية. كذلك يجب ان نتفق على مفهوم تحييد لبنان. كانت سياسة النأي بالنفس أكذوبة كبيرة، إذ أن هذه السياسة تعني في العمق عدم القدرة على وضع استراتيجية للحياد. فهي تزويرٌ للحياد. ينأى المرء بنفسه عن عمل شيء ما عندما لا يعرف ماذا يعمل بهذا الشيء. نحن نؤمن بسياسة الحياد الفاعل، أي الحياد الذي يصبّ في مصلحة لبنان. ونُفضّل عدم استعمال كلمة الحياد الإيجابي لأن الإيجابية يُفسّرها كلٌّ على هواه. ونحن لا نُذيع سرّاً إذا قلنا أنه من أهم أسباب الأزمة الإقتصادية والمالية في لبنان هي الحروب القائمة اليوم بين الغرب وإيران. فالعالم العربي والعالم الغربي يعتبران لبنان في قبضة محور الممانعة. لذلك عبثاً نحاول أن نقوم من القعر الذي نحن فيه إذا لم نتفق على حياد لبنان. وكيف نضمن التزام “حزب الله “الحياد؟ هذه المرة، غيرها من المرات قبلها، يعرف “حزب الله” أنه إذا لم يلتزم، لن ينهار لبنان وحده بل سينهار هو معه أيضاً. فالحياد هذه المرة يصب في مصلحة “حزب الله”. وكذلك علينا ان نتّفق على أن لا يكون هناك حزب أو فئة او تيار يعتبر نفسه أكبر من لبنان وأن في مقدوره أن يأخذ لبنان إلى مكانٍ لا يريده اللبنانيون. وبينما تعني سياسة النأي بالنفس عدم وجود استراتيجية مستقبلية، فالحياد هو العكس، إنه يعني وضع استراتيجية ذكية لإرساء أفضل العلاقات مع دول العالم بدل أن نضطر الى دفع سعر الخلافات بين هذه الدول. والغريب أنه على رغم الفشل الذريع الذي اصابنا نتيجة لسياسة النأي بالنفس، نعود لنصّر على الفشل. هل نحن مُدمنون الفشل؟ ونحن بالطبع نعرف أسباب هذا الإصرار على الفشل. فالطبقة السياسية الحاكمة تُريد الحفاظ على مغانمها ومكاسبها.

المطلوب اليوم من الثورة ليس فقط تغيير الطبقة السياسية بواسطة انتخابات مبكرة، بل أيضاً إيجاد مناخ جديد وثقافة سياسية جديدة تُصبح فيها القوى السياسية بأيادي قادة لا بأيادي زعماء. نحن نريد قادة. لا نريد زعماء. فالقيادة هي عكس الزعامة. الزعيم يريد مصلحته ويعمل على إعلاء شأنه. القائد يريد مصلحة شعبه ويعمل على إعلاء شأن وطنه. من هنا لا بد من العودة الى الثوار لنقول لهم: أنتم تحتاجون الى قيادة حكيمة من دونها لا يُمكنكم ان تصلوا الى أهدافكم. ويُخطئ مَن يقول لكم أن قوتكم هي في عدم وجود قيادة لكم. هذا الكلام يُذكّرنا بما قيل في الماضي من أن “قوة لبنان هي في ضعفه”. ونعود أيضاً لنقول لكم إننا نخاف عليكم من الإحباط. إن الطريق لطويل والمطبات كثيرة. فإياكم ان تخافوا من الفشل. حدّقوا في الضوء الكبير في آخر هذا النفق المظلم. في الطريق بينكم وبين الضوء ستفشلون مرات عدة، ولكن وحدهم الذين يقفزون فوق الفشل يصلون الى الضوء. أنتم الضوء لنا. نرجو ألّا تُطفئوا سراجكم.

  • الدكتور فيليب سالم، باحث وأخصائي في أمراض السرطان، رئيس مركز سالم للأورام السرطانية في هيوستن، تكساس.
  • نُشِر هذا المقال أيضاً في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى