تركيا تَغرق رويداً رويداً في مستنقع شرق البحر المتوسط

أصبح شرق البحر المتوسط ​​محوراً متزايد الأهمية لسياسة تركيا الخارجية والأمنية، لكن تشابك القضايا الجديدة مثل سياسة الطاقة وحقوق السيادة مع المشكلات القديمة مثل قبرص قد خلق تحديات كبيرة لأنقرة.

 

رجب طيّب أردوغان: يريد حصة من نفط شرق البحر المتوسط ولو بالقوة!

 

بقلم مِليحا بنلي ألتونسيك*

إن استكشاف واكتشاف موارد الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط على مدار العقد الماضي من قبل دول الساحل الشرقي، إسرائيل وجمهورية قبرص ومصر، أبرزا قضيتين: الأولى، الحاجة إلى ترسيم الحدود البحرية، وهي خطوة تجنّبتها هذه الدول في الماضي كي لا تتعدّى وتؤثّر على نشاط قطاع الصيد؛ وثانياً، الحاجة إلى نقل الغاز المُستخرَج من هذه الحقول الجديدة إلى المُستخدِمين النهائيين في أوروبا عبر خطوط أنابيب و/ أو منشآت الغاز الطبيعي المُسال. نتيجة لعلاقاتها المتدهورة والمتوترة مع الدول الثلاث، فإن تركيا ليست طرفاً في هذا التعاون الإقليمي الجديد. وبدلاً من ذلك، فإن استبعادها على حد سواء من العملية الأوسع وكذلك الجهود المُحَدَّدة لمعالجة هاتين المسألتين قد أدى إلى عقبات جديدة كبرى.

الحدود البحرية المُتنازَع عليها

لطالما عانت تركيا من نزاعات حول الحدود البحرية مع جيرانها، ويعود أصل الأزمة الحالية إلى أوائل العقد الأول من هذا القرن، عندما بدأت جمهورية قبرص في وضع الأسس لاستكشاف الغاز البحري. لقد انزعجت أنقرة من أعمال القبارصة اليونانيين في ما يتعلق بترسيم وتعيين حدود المناطق البحرية، والتي ادّعى كلٌّ من تركيا والقبارصة الأتراك على أنها تضرّ بحل النزاع الأوسع بشأن قبرص. وعلى الرغم من هذه الإعتراضات، وقّعت جمهورية قبرص إتفاقية ترسيم الحدود مع مصر في العام 2003، بعد ثلاثة أشهر فقط من إطلاق الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان خطة سلام شاملة. تم طُرِحَت خطة عنان للإستفتاء في نيسان (إبريل) 2004، لكن القبارصة اليونانيين رفضوها في النهاية، وأصبحت جمهورية قبرص عضواً في الإتحاد الأوروبي في الشهر التالي. وقد جادلت أنقرة بأن اتفاقية ترسيم الحدود لم تأخذ في الإعتبار حقوق القبارصة الأتراك أو تركيا نفسها، واللتين يجب أن تكون لهما منطقة إقتصادية خالصة كاملة تمتد من الجرف القاري.

في العام 2007، وقّع القبارصة اليونانيون إتفاقية ترسيم حدود أخرى، هذه المرة مع لبنان، على الرغم من طلب رسمي من أنقرة إلى بيروت بعدم القيام بذلك. ثم قدمت تركيا والقبارصة الأتراك شكاوى إلى الأمم المتحدة وطلبا تعليقها حتى يتم التوصل إلى حل لمشكلة قبرص. كما أعلنت تركيا أنه لن يُسمح للشركات التي شاركت في جولة التراخيص للتنقيب عن الغاز الطبيعي في قبرص بالعمل في تركيا. ومع ذلك، في النهاية، لم تتمكن تركيا والقبارصة الأتراك من منع جمهورية قبرص من توقيع اتفاقات ترسيم الحدود البحرية مع مصر ولبنان التي إدّعيا أنها تنتهك حقوقهما.

عندما تمّ الإعلان عن اكتشافات جديدة في العقد الثاني من القرن الحالي، بدأت الجغرافيا السياسية لشرق البحر المتوسط ​​تسخن وتَحتَرّ. إكتشفت إسرائيل حقلاً مهماً للغاز الطبيعي البحري في العام 2009 (حقل تمار) وفي العام 2010 (حقل ليفياثان)، مما دفعها إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع القبارصة اليونانيين في العام 2010 أيضاً. كان ذلك العام مهماً أيضاً للعلاقات التركية – الإسرائيلية حيث وصلت إلى الحضيض عقب حادثة “مافي مرمرة” (Mavi Marmara )، عندما داهمت القوات الإسرائيلية سفينة تركية كانت جزءاً من أسطول دولي يحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة، وقتلت تسعة مواطنين أتراك.

في الوقت نفسه تقريباً، بدأ القبارصة اليونانيون جهودهم في الحفر، مما دفع تركيا إلى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع القبارصة الأتراك. وأعقب ذلك توقيع اتفاقية ترخيص استكشاف وإطلاق مسح زلزالي قامت به السفينة “بيري ريس” (Piri Reis ) قبالة السواحل الشمالية لقبرص، برفقة وحماية سفن من البحرية التركية. في العام 2011، تم اكتشاف حقل بحري كبير آخر، يُعرف باسم “أفروديت”، قبالة الشواطئ الجنوبية لقبرص. تلا ذلك اكتشاف أكبر حقل للغاز في البحر المتوسط حتى الآن في 2013-2014، “حقل ظهر”، قبالة ساحل مصر. وقد ساعدت هذه الإكتشافات على زيادة الإهتمام من جانب شركات الطاقة الدولية وكذلك الجهود المبذولة لرسم طرق التصدير المُحتَمَلة للغاز المُنتَج.

التعاون بين جمهورية قبرص واليونان وإسرائيل

كانت إحدى نتائج هذه الإكتشافات هي بدء التعاون بين جمهورية قبرص واليونان وإسرائيل، حيث ركزت هذه الدول في البداية على التحدّي المشترك المتمثل في نقل الغاز الطبيعي من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى السوق، ولكن في وقت لاحق إمتد التعاون ليشمل العلاقات الديبلوماسية والعسكرية. مع توقّع أن يتجاوز الإنتاج من الحقول الجديدة الطلب المحلي، كثفت كلٌّ من إسرائيل وجمهورية قبرص جهودهما لإيجاد طرق لتصدير الغاز للبيع في الخارج. في عملهما هذا، إختارتا إستبعاد تركيا وعدم إستخدام شبكة خطوط انابيبها الحالية، كما نوقش في الماضي، ولكن بدلاً من ذلك بدأتا التفكير في بناء خط أنابيب جديد يمتد عبر جزيرة كريت إلى إيطاليا. ومع إضافة اليونان لاحقاً، عزّزت هذه البلدان تعاونها ووسّعت نطاقه إلى ما بعد قطاع الطاقة. من وجهة نظر أنقرة، كانت هذه محاولة أخرى لنبذها واستبعادها من شرق البحر الأبيض المتوسط.

تعتري علاقات تركيا مع هذه الدول الثلاث إشكاليات وتوترات. النزاع التاريخي حول الحدود البحرية بين اليونان وتركيا في بحر إيجة ومشكلة قبرص لهما تأثير مباشر في التطورات الحالية في شرق البحر المتوسط. من خلال مطالباتهما بتعيين وترسيم الحدود، سعت جمهورية قبرص واليونان إلى السيطرة على جزء كبير من شرق البحر المتوسط ​​- وهو الوضع الذي يؤثر في تركيا أكثر من أي شيء آخر. كما أن علاقات تركيا مع إسرائيل مضطربة أيضاً وتدهورت بشكل كبير منذ حادثة “مافي مرمرة”، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى انتقادات الحكومة التركية القاسية للسياسات الإسرائيلية.

ولكن هذا لا يعني القول أن سياسات الطاقة لا تؤدي إلّا إلى تقسيم البلدان في المنطقة؛ يُمكنها أيضاً التأثير بشكل إيجابي في العلاقات الثنائية كجزء من المفاوضات السياسية. على سبيل المثال، في شباط (فبراير) 2014 عندما بدأت جولة أخرى من المحادثات القبرصية، تم إدراج الغاز الطبيعي وقضية النقل على جدول الأعمال. وبينما كان البعض يأمل في أن تخلق الطاقة فرصة للتعاون للمساعدة على تعزيز السلام، فإن آخرين إتّهموا القبارصة اليونانيين باستخدامها كأداة للضغط. على أي حال، إنتهت تلك الجولة من المحادثات مثلها مثل جميع المحادثات الأخرى من دون قرار.

كانت قضايا الطاقة أيضاً محور تركيز الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل. بعد أن اعتذرت الدولة العبرية عن غارة “مافي مرمرة” ووافقت على دفع تعويضات لأسر القتلى في آذار (مارس) 2013، حاول البَلَدان العثور على أرضية مشتركة. وبعد ثلاث سنوات من المفاوضات وقّعت تركيا وإسرائيل في حزيران (يونيو) 2016 إتفاقية مُصالحة، وأصبح التعاون في مجال نقل الغاز الطبيعي جزءاً من المفاوضات الرسمية في تشرين الأول (أكتوبر) 2016. وقد زار وزير الخارجية الإسرائيلي تركيا، وهي أول زيارة رسمية منذ العام 2010، للقاء مع وزير الطاقة التركي آنذاك بيرات البيرق. كان الطريق الأكثر فعالية من حيث التكلفة لنقل الغاز الإسرائيلي عبر لبنان وسوريا إلى تركيا، لكن هذا لم يكن قابلاً للتطبيق من الناحية السياسية. كان البديل هو المرور عبر المياه الإقليمية لقبرص، والتي كانت بمثابة خرق للصفقات، وكذلك يعني ضم الصراع القبرصي إلى المعادلة. على أي حال، لم يتمكّن الجانبان أيضاً من الإتفاق على شروط إقتصادية، ونتيجة لذلك، لم يتم التوصل إلى اتفاق.

خط أنابيب “إيست مَد” ومنتدى شرق البحر المتوسط للغاز

في أعقاب فشل المفاوضات التركية الإسرائيلية، تم إحياء فكرة خط أنابيب شرق البحر المتوسط “إيست مَد” ​​(EastMed) الذي يمر عبر جزيرة كريت. على الرغم من أنه من المرجح أن يكون من الصعب تنفيذ هذا المشروع تقنياً ومالياً، فمن الظاهر أن هناك دعماً سياسياً له من جميع الدول الثلاث المعنية. ويبدو أن المشروع يمضي قدماً وعُقدت مراسم توقيع عدة، كان آخرها في اليونان في كانون الثاني (يناير) 2020.

بالإضافة إلى مشروع “إيست مَد” (EastMed)، كان هناك تطور كبير آخر حدث أخيراً في سياسات الطاقة الإقليمية وهو إنشاء منتدى شرق البحر المتوسط للغاز. في كانون الثاني (يناير) 2019، أطلق وزراء الطاقة من إيطاليا وجمهورية قبرص واليونان وإسرائيل ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، الذي يهدف إلى إنشاء سوق غاز إقليمية. ويبدو أن هذه المبادرة كانت مصرية إلى حد كبير، على الرغم من أنها تحظى أيضاً بدعم من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، حيث أن القاهرة لديها طموحات بأن تصبح مركزاً إقليمياً للغاز الطبيعي المسال، والذي قد يكون خياراً أقل تكلفة ومخاطر سياسياً من خط أنابيب “إيست مَد”. من الجدير بالذكر أن المبادرة لا تشمل لبنان وتركيا. فلبنان لا يعترف بإسرائيل وهو في نزاع مستمر معها على الحدود البحرية، في حين أن تركيا لديها علاقات متوترة ومتدهورة مع معظم أعضاء منتدى شرق البحر المتوسط للغاز، وخصوصاً مصر.

تدهورت علاقات أنقرة مع القاهرة بحدّة عندما أصبحت الناقد الرئيس والأكثر صراحة للإنقلاب الذي أطاح حكومة محمد مرسي في العام 2013 وأدى إلى وصول عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة المصرية. علاوة على ذلك، واصلت تركيا دعمها لجماعة “الإخوان المسلمين” المصرية، والذي لا يُغضِب النظام المصري فحسب، بل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أيضاً، الداعِمَين الرئيسيين لنظام السيسي والعدوّتين الرئيسيتين لحركة “الإخوان المسلمين”. خلال حكومة مرسي القصيرة الأجل، كانت العلاقات المصرية – التركية وثيقة للغاية، وتحدث البَلَدان عن التعاون في قضايا شرق البحر المتوسط. ودخلت إتفاقية ترسيم الحدود لعام 2003 حيّز التنفيذ بالفعل بموافقة كلا البرلمانَين، لكن قانون المنطقة الإقتصادية الخالصة الذي كان ضرورياً للتنفيذ الكامل لم يُقرّه البرلمان المصري إلا بعد وصول السيسي إلى السلطة.

في الجوهر، أصبحت التطورات في قطاع الطاقة في شرق البحر المتوسط​​، بما فيها قضايا الحدود البحرية وسياسة خطوط الأنابيب، متشابكة مع الصراعات الجيوسياسية الأوسع في المنطقة، مما أدى إلى استبعاد تركيا. ومما زاد الطين بلة بالنسبة إلى أنقرة أنه نتيجة للزيادة في اكتشافات حقول الغاز، لم يؤدِّ ذلك إلى جذب اهتمام المزيد والمزيد من الشركات فحسب، بل جذب أيضاً إهتمام الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، اللذين بدأا تقديم دعم أكبر لمنتجي الغاز في شرق البحر المتوسط.

أولويات تركيا وسياساتها

القضية الرئيسة بالنسبة إلى تركيا في شرق البحر المتوسط ​​هي ترسيم الحدود البحرية، وهو موضوع سيادي. إن موقف تركيا هو أنه بما أن البحر المتوسط ​​هو بحر شبه مُغلَق، ولأن هناك مطالبات متداخلة بالسيادة، فإن ترسيم الحدود البحرية يتطلب التعاون بين الدول الساحلية أو إحالة القضية إلى محكمة العدل الدولية وفقاً للقانون الدولي. من جهتها قررت محكمة العدل الدولية سابقاً بالفعل ترسيم الحدود البحرية بين تونس وإيطاليا ومالطا وإيطاليا، وفي كلتا الحالتين، إعتمدت مبدأ المسافة العادل – الفكرة بأن الحدود البحرية يجب أن تتوافق وتتفق مع خط وسيط بين البَلَدَين الجارين. مسألة ذات صلة هي دور الجزر في ترسيم الحدود. تُجادل تركيا بأنه ليست لجميع الجزر الحقوق البحرية نفسها التي يتمتع بها البر الرئيس، لا سيما في البحار شبه المغلقة، حيث توجد مطالبات متداخلة بالسيادة. وتقول أنقرة أيضاً إن القبارصة اليونانيين لا يمكنهم تجاهل حقوق القبارصة الأتراك. كدولة ذات أطول سواحل في شرق البحر الأبيض المتوسط​​، تقول تركيا إنها لا تستطيع قبول ما تعتبره مطالبات أحادية ومتطرفة من جانب بعض الدول الساحلية.

منذ بداية طفرة الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط​​، كانت تركيا بشكل عام تفاعلية أكثر منها إستباقية في سياساتها. في أوائل العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، كان الجو مُختلفاً بسبب التطورات الإيجابية في علاقات تركيا مع الإتحاد الأوروبي وكذلك إمكانية حلّ القضية القبرصية وفق خطة عنان، التي دعمتها كلٌّ من تركيا والقبارصة الأتراك، على الرغم من بعض الإنتقادات في الداخل. خلال السنوات الأولى، زادت تركيا من احتجاجاتها، لكنها كانت في الأساس ردود أفعال على الخطوات التي اتخذها الجانب الآخر وشملت شكاوى إلى الأمم المتحدة، وتهديدات بإدراج الشركات التي شاركت في المناقصات على القائمة السوداء، وكذلك زيادة التعاون مع القبارصة الأتراك في مجال إستكشاف الغاز.

غير أن تحركات تركيا الأخيرة تُمثّل تغييراً جوهرياً في النهج. بادئ ذي بدء، إشترت تركيا سفينتي حفر، “يافوز” (Yavuz) و”فتح” (Fatih)، لتحل محل “بيري ريس” (Piri Reis) القديمة العهد، والتنقيب عن الهيدروكربونات في شرق البحر الأبيض المتوسط. ثانياً، وقّعت تركيا إتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني، المُعترَف بها من الأمم المتحدة في ليبيا، في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019. كانت الصفقة مع الحكومة الليبية على وجه الخصوص بمثابة تغيير للعبة. يهدف الإتفاق، الذي حدد ترسيم الحدود البحرية الغربية لتركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط​، إلى تجاوز وتجاهل المطالب اليونانية للتأثير الكامل للحقوق البحرية لجزرها، وبالتالي لا يزيد فقط من حقوق الجرف القاري لتركيا بل أيضاً لليبيا. كما أنه يعطي حقوق الجرف القاري لمصر أكثر من الإتفاقية التي وقّعتها مصر في العام 2003 مع جمهورية شمال قبرص التركية.

ومع ذلك، فإن هذه التحركات تستتبع أيضاً تحدياتها الخاصة. إن جهود التنقيب التركية لم تُسفر عن أي اكتشافات حتى الآن. وتُرافق سفن الحفر دوريات بحرية تركية – وهو الوضع الذي قد يؤدي إلى التصعيد. علاوة على ذلك، كان رد فعل الإتحاد الأوروبي، الذي تُعد اليونان وجمهورية قبرص عضوين فيه، سلباً على أنشطة الإستكشاف التركية وهدّد أنقرة بفرض عقوبات إذا استمرت. ويُقابل ذلك الحذر من جانب بعض دول الاتحاد الأوروبي لتهديد تفاهم الكتلة مع تركيا بشأن قضية اللاجئين، حيث هدّد الرئيس رجب طيب أردوغان باستخدامها ضد الاتحاد الأوروبي. في صيف العام 2015، عندما حاول مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الوصول إلى أوروبا، توصّل الإتحاد الأوروبي وتركيا إلى اتفاق، مما حال دون عبور جماعي غير منتظم للاجئين من تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي. يُنظَر إلى الصفقة بشكل عام على أنها ناجحة، على الأقل من حيث تخفيض عدد المعابر، وبالتالي فإن دول الاتحاد الأوروبي حريصة على الحفاظ عليها.

إن اتفاق تركيا مع ليبيا هو أكثر تعقيداً مما يبدو الأمر. البلاد في حرب أهلية والحكومة المُعترَف بها من قبل الأمم المتحدة تتعرّض للهجوم من قبل قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر. وحفتر مدعوم من مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وفرنسا وروسيا، وتقدمت قواته أخيراً إلى ضواحي طرابلس. لقد جعل إتفاق تركيا مع حكومة الوفاق الوطني أنقرة طرفاً مباشراً في النزاع. في الواقع، بعد توقيع إتفاقية ترسيم الحدود البحرية، وقّعت تركيا أيضاً إتفاقية تعاون أمني مع حكومة الوفاق الوطني وأصدر البرلمان التركي قراراً يدعم إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا. لم يتم استقبال الصفقة البحرية في اليونان بشكل جيد: لقد طُرد السفير الليبي على الفور وزار وزير الخارجية اليوناني حفتر في ليبيا بعد ذلك بوقت قصير. بالتزامن مع روسيا، حاولت تركيا التوسط في اتفاق وقف إطلاق النار بين الأطراف في ليبيا، ولكن بعد التشاور مع مؤيديه، إختار حفتر عدم توقيع الصفقة. وأعقب ذلك مؤتمر برلين في 19 كانون الثاني (يناير) 2020 بمشاركة جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك تركيا. إنتهى ذلك المؤتمر ببيان مؤلف من 55 نقطة دعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، وفرض حظر للأمم المتحدة على الأسلحة، وتفكيك الميليشيات، واستئناف العملية السياسية – لكنه لم يتمكن من التوصل إلى نتيجة واضحة إذ أن حفتر مرة أخرى لم يؤيد الصفقة تماماً.

باختصار، إن مستقبل اتفاقية ترسيم الحدود التركية، التي منحت أنقرة للمرة الأولى فوزاً في المفاوضات حول سياسات الطاقة في شرق البحر المتوسط​​، يتوقف على ما يحدث في ليبيا ونتائج القتال بين قوات حكومة الوفاق الوطني والجيش الوطني الليبي التابع لحفتر. علاوة على ذلك، تربط مرة أخرى سياسات الطاقة في شرق البحر المتوسط ​​بالصراع الجيوسياسي الأوسع في الشرق الأوسط.

إستنتاج

لسوء الحظ، لم يساعد إكتشاف الموارد الهيدروكربونية في شرق البحر المتوسط ​​حتى الآن في حل النزاعات الطويلة الأمد، بل أدى إلى تصعيد النزاعات الجديدة والقديمة. لقد برهنت سياسات الطاقة الإقليمية على أنها لعبة محصلتها صفر، مما زاد من حدة المنافسات الاستراتيجية الإقليمية والدولية القائمة. اليوم شرق البحر الأبيض المتوسط ​​هو واحد من أكثر المناطق عسكرة في العالم. على الرغم من هذه الصورة القاتمة، فقد قدّم الطرفان بعض المقترحات البناءة. على سبيل المثال، إقترحت تركيا الإدارة المشتركة للموارد وأعلنت أنها مفتوحة للحوار مع جميع دول المنطقة. على الرغم من تاريخهما المليء بالنزاعات، فإن لدى تركيا واليونان خبرة كبيرة في إدارة علاقاتهما وفي العديد من الفترات تعاونا بفعالية كعضوين في الحلف الأطلسي (الناتو).

علاوة على ذلك، يبدو أن هناك علامات على وجود انفتاح مُحتمَل مع مصر و/ أو إسرائيل أيضاً. لقد تعلمت تركيا تجزئة علاقاتها مع كلٍّ من مصر وإسرائيل، لأن العلاقات الاقتصادية الثنائية لم تتأثر إلى حد كبير بمشاكلها السياسية. من المهم أيضاً أن نلاحظ أن منتدى شرق البحر المتوسط للغاز قد أعلن أنه ليس ضد أي دولة ومنفتحٌ على قبول دول إضافية كأعضاء، شريطة أن تقبل قوانينه وقواعده المُنَظِّمة. نأمل أن تُقرر دول شرق البحر المتوسط إتباع طريق التعاون، مما قد يؤدي إلى مزيد من الثروة والإستقرار لجميع المعنيين، بدلاً من مسار التصعيد والحرب.

  • مليحة بنلي ألتونسيك هي باحثة غير مقيمة في برنامج الدراسات التركية التابع لمعهد الشرق الأوسط، وأستاذة في قسم العلاقات الدولية في جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة. الآراء المعبر عنها في هذا المقال هي آراؤها الخاصة.
  • كُتِب هذا التقرير بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى