الـمُواطن الـمُنقاد بين الكلْب والكوباي

هنري زغيب*

دَرَسْنا في الصفوف الثانوية، بين فُصُول مادة العلوم، موضوع “الفعل” وَ”رَدَّة الفعل”، وتَبَيُّنِهِما وَفْق اختبار إِيفان بتروفيتش بافلوفPavlov  (1849-1936) العالم الروسي الذي حاز جائزة نوبل للعُلُوم سنة 1904 (أَي في السنة الرابعة لإطلاقها سنة 1901)، وهو ما شاع باسم “نظرية بافلوف”. وخلاصة اختباره أَنه وضع تحت لسان كلبه ما يُحصي كمية اللُعاب، وأَخذ يقَرِّبُ له قطعةَ لحم شهيةً فيما يرن على مسمعه في اللحظة ذاتها جَرَسًا معلَّقًا فوقه. بعد بضع مرات من تقريبه قطعةَ اللحم مصحوبةً بصوت الجرس وقياسِه كميَّةَ اللُعاب في فم الكلب، أَخذ يضائل من حجم قطعة اللحم ويزيد من دقَّات الجرس، فلاحظ أَن كمية اللُعاب لا تتغيَّر. استخلص أَن فعل رؤْية قطعة اللحم يثير لُعاب الكلب في ردَّة فعل ثابتة. وذات مرة، رنَّ الجرسَ بدون تقديم قطعة اللحم وقاس كمية اللُعاب، فإِذا هي لم تتغيَّر بالرغم من غياب قطعة اللحم الشهية. من هنا وضع نظريته في مبدإِ ردَّة الفعل المشروطة بعامل الفعل، من سماع الجرس بدون رؤْية قطعة اللحم.

من نظرية بافلوف أَنتقل إِلى الكوباي، هو جنس من الفئْران يستخدمه العلماء والباحثون في المختبرات لإِجراء اختبارات علْمية من كل نوع ودراسة نتائجها قبل تطبيقها على الإِنسان في عمليات جراحية أَو شفائية.

إِلى أَين من هذَين النموذجين؟ إِلى الـمُواطن اللبناني.

ما الهدف من إِثارتهما؟ معاينتي هذه الأَيام ردود فعل الـمُواطن اللبناني.

فما أَراه حولي وأَسمعه وأُراقبه لا يبتعد عن موضوع الفعل وردَّة الفعل. الفعل من السياسيين، وَرَدَّة الفعل من المواطنين.

الفعل يثيره السياسيون، في الحُكْم وخارج الحُكم معًا، ويراقبون ردَّة الفعل المواطنين، كما يراقب الدارسون فئْران المختبرات.

السياسيون يطلقون التصاريح في الصحافة والإِعلام وبرامج الـ”تُوك شو” السياسية المتلاطمة ليليًّا على مختلف الشاشات، ويروح المواطنون، ردَّة فعلٍ، يَركُسُون ويَتَراكسُون ويَسْتَركسُون ارتكاساتٍ وارتكاساتٍ مضادَّةً، انفعالًا ونقاشًا في بيوتهم ومع عشرائهم أَو على أَثير الإِذاعات وهوائيات التلفزيونات وعلى منصات التواصل الإِلكتروني، يتحمَّسون لهذا السياسي، يتخاصمون حول ذاك، يتصايحون في نصرة ذلك أَو انتقادِه، وقد ينهمرون إِلى الشوارع والساحات حاملين صُوَر واحد منهم هاتفين غَريزيًّا عُميانيًّا أَغناميًّا ببغاويًّا: “بالروح بالدم نفديك يا…”، ومعظم تلك الهتافات تسقط حين يَسقط من حساب السياسي المهتوف له مدُّ تلك الجماهير الهتوفة بأَموال انتخابية فتنقلب الـ”نفديك يا…” من ذاك السياسي إِلى سياسي آخَر.

إِنها، أَيضًا وأَيضًا، نظرية الفعل وَرَدِّة الفعل، في اختبار الشعب وإِلهائه بنشاط السياسيين وغلاء المعيشة وانقطاع البنزين حتى فلا حديث للشعب إِلَّا الضنى والذُلّ، فيما السياسيون من خلف انتباه الشعب يُحَيِّكون مؤَامراتهم الخفية وتحالفاتهم الانتخابية وصفقاتهم السياسية، متَّكلين أَنَّ الشعب سيرضى بها مهما كانت وكيفما خرجت، وأَنْ ستكون ردةُ فعله المألوفةُ “بالروح بالدم نفديك يا…”.

أَعرف أَنني لن أُعمم، وأَنَّ في شعبنا الـمُنْهَكِ اليومَ انتفاضةَ ثأْرٍ جامحةً على أَفعال السياسيين وما أَوصلونا إِليه.

وأَعرف أَيضًا أَن في شعبنا كثيرين وَعَوا حقيقة معظم السياسيين وسيقلبون على رؤُوس زعمائهم صندوقة الاقتراع يوم الانتخاب.

ولكنْ، تلك البقية الباقية من شعبنا، البقية الخانعة الزاحفة الببغاوية الـمُستزلِمة الـمُستسلمة، أُحب أَن أَراها ترفض بقسوةٍ أَن تكونَ رَدَّةَ فعل على فعل السياسيين، فتأْبى، في شدةٍ أَقسى، أَن تكون صورةً بلْهاء عن كلب بافلوف أَو كوباي المختبرات.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى