الانتصاراتُ العسكرية الإسرائيلية لا معنى لها في غيابِ استراتيجيةٍ سياسيّة

في بيئة ما بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) حيث كل ما يُوحّدُ المجتمع الإسرائيلي المُنقَسِم بعمق هو الاعتقاد بضرورة تدمير “حزب الله” و”حماس”، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن للاستراتيجيات السياسية الرامية إلى تطويرِ علاقاتٍ مُستقرّة مع العالم العربي أن تنشأ من داخل الدولة الإسرائيلية.

إجتياح جنوب لبنان برّيًا لن يكون نزهة للجيش الإسرائيلي.

ألكسندر كلاركسون*

مع بدء القوات الإسرائيلية هجومها البرّي ضد “حزب الله” في جنوب لبنان، أخذ المحلّلون يعودون بالذاكرة إلى الوراء، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 لفَهمِ الانزلاق الحالي إلى الفوضى. إنَّ المُقارنات بين حرب إسرائيل لتدمير الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية في الثمانينيات الفائتة وسعيها الحالي إلى سحق “حزب الله” وغيره من الجماعات المدعومة من إيران في المنطقة تُقدّمُ بعضَ أوجه التشابه. مع ذلك، فإنَّ الاختلافات بين عالم العام 1982 والحقائق الوحشية اليوم هي التي تُوفّرُ مؤشّراتٍ أكثر فائدة للمسار الجيوسياسي في الشرق الأوسط.

للوهلة الأولى، يبدو أنَّ هناكَ أوجُهَ تشابُهٍ سطحيةٍ بين الجهود الإسرائيلية الحالية للقضاءِ على “حزب الله” تمامًا والهجومِ الضخم في العام 1982 الذي انتهى بتطويقِ الجيش الإسرائيلي لبيروت لإجبار منظمة التحرير الفلسطينية وزعيمها آنذاك ياسر عرفات على مغادرة لبنان. في كلتا الحالتين، أدّت سنواتٌ من الغارات المستمرّة، فضلًا عن الضربات الصاروخية والمدفعية بين الميليشيات والتنظيمات المُسلحة جيدًا من جهة والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، إلى خلقِ أجواءٍ مشحونةٍ في جنوب لبنان وشمالِ إسرائيل. وخلال سبعينيات القرن الفائت وكذلك أوائل العقدين الأوَّلَين من القرن الحالي، تشابكت هذه التوتّرات مع ديناميكياتِ الصراعِ الأوسع في الشرق الأوسط بطُرُقٍ عزّزت موقفَ الصقور داخل القيادة الإسرائيلية الذين اعتقدوا أنَّ المُعضلات الاستراتيجية التي تُواجِهُ إسرائيل لا يُمكنُ حلُّها إلّا من خلالِ القوّة العسكرية.

في العام 1982، كان وزير الدفاع آنذاك أرييل شارون هو الشخصية الإسرائيلية التي كانت غرائزها المُتشدّدة هي العامل الحاسم في غزوِ لبنان. وبالتعاون مع جنرالاتٍ من ذوي التوجّهاتِ المُتشابهة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومسؤولين من حزب الليكود اليميني الذي ينتمي إليه، نجح شارون في تجميع خطةٍ لتحويل توازن القوى في الشرق الأوسط. وكانت محاولة اغتيال ديبلوماسي إسرائيلي في لندن على أيدي فصيلٍ فلسطيني (جماعة أبو نضال) في حزيران (يونيو) 1982 بمثابةِ الذريعة التي كان يبحث عنها لتنفيذ هذه الخطة. وبعد إبعاد القوات السورية في لبنان ووضع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت تحت الحصار، إستطاع بشير الجميل، الزعيم المسيحي الماروني المعادي لسوريا والفلسطينيين والمقرَّب آنذاك من شارون، في أن يُصبحَ رئيسًا للجمهورية في لبنان.

لا يزالُ من غير الواضح إلى أيِّ مدى كان رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك مناحيم بيغن مُدرِكًا للمدى الكامل لخطة شارون. لكن مشاركة الجنرالات الإسرائيليين ومسؤولي الاستخبارات في اجتماعاتٍ بالقرب من بيروت مع الجميل وغيره من الزعماء الموارنة كانت تعني أن أغلب الزعماء الإسرائيليين كانوا يدركون أنَّ خطةً كبرى “لإعادة تشكيل” الشرق الأوسط كانت في طورِ التشكيل. ورُغمَ أنَّ العديدَ من كبار الضباط الإسرائيليين أعربَ عن قلقه إزاء خطة شارون حتى قبل أن تؤدّي حساباته الخاطئة إلى تحويل الانتصارات العسكرية المُبكرة إلى مستنقعٍ مُستعصٍ، فإنَّ تصميمَ هؤلاء الجنرالات ورغبتهم في القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية كقوّةٍ عسكرية، واحتواءَ الطموحاتِ السورية في لبنان، دفعهم إلى الانصياع لخطة شارون بمجرّد بدء الغزو.

ومع تطوُّرِ الحرب، تأكّدت بسرعة الشكوك بين المسؤولين الإسرائيليين حول مزايا وتداعيات الخطة ـ فضلًا عن المخاوف بين المسؤولين الأميركيين من أنَّ شارون كذب عليهم بوقاحة بشأنِ أهدافه. وبعد أن غادرَ عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية لبنان إلى تونس في آب (أغسطس) 1982، انهارَ موقف إسرائيل بسرعة. فقد اغتيل الجميل في أيلول (سبتمبر)، وتراجعَ الزعماء الموارنة الذين خلفوه عن تواصلهم ومتابعة الطريق مع تل أبيب. ثم أضاف تورُّط إيران في الصراع وغضب الشيعة اللبنانيين إزاء الحرب التي دمّرت مجتمعاتهم تحدّياتٍ جديدة وغير مُتَوَقَّعة. وأصبح النجاح النهائي الذي حققته هذه التمرّدات الشيعية اللبنانية المدعومة من إيران في إجبار قوات حفظ السلام الغربية على مغادرة لبنان في العام 1983 وإيقاع الجيش الإسرائيلي في مستنقعٍ دموي حتى العام 2000 الأساس لهيمنة “حزب الله” في لبنان التي تحاول إسرائيل الآن اقتلاعها.

لكن هذه الروابط التاريخية بين خطة شارون في العام 1982 وطموح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الواضح إلى إعادة ترتيب الشرق الأوسط اليوم قد طغت على اختلافاتٍ كبيرة بالقدر نفسه بين الصراعَين. ورُغم أن نتنياهو بادرَ إلى شنِّ عملياتٍ عسكرية تحتوي على أصداءٍ وأشياءٍ مخيفة من العام 1982، فإنَّ الحملةَ الحالية ضد “حزب الله” هي نتيجةٌ لضغوطٍ مختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي هيمنت على الاستراتيجية الإسرائيلية في أوائل الثمانينيات. وفي حين أن إسرائيل كانت مُنقسمة داخليًا بحلول العام 2024 كما كانت بحلول نهاية العام 1982، فإنَّ الهياكلَ الأساسية للسياسة الإسرائيلية تغيّرت بشكلٍ كبير على مدى السنوات الأربعين الماضية.

في البداية، إنَّ الطريقة التي بدأ بها الصراعان تُشكّلُ أمرًا بالغ الأهمية لفَهمِ سببِ عدم قدرتهما على تحقيق نتائج مماثلة، على الرُغم من بعض أوجه التشابه بينهما. ففي حين استحوذ موقف منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان على تركيز القيادة الإسرائيلية بالكامل في أوائل الثمانينيات، فإنَّ الانزلاق الحالي إلى الحرب كانَ بسبب الهجمات التي شنّتها “حماس” من غزة ضد المُستوطنات في جنوب إسرائيل. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الدورَ الذي لعبه الحرس الثوري الإيراني وشركاؤه بين الميليشيات في العراق وحركة الحوثيين في اليمن يعني أن إسرائيل تقاتل على نطاقٍ إقليمي أوسع بكثير اليوم مُقارنةً بالعام 1982.

علاوةً على ذلك، في أوائل الثمانينيات، كان الجيش السوري في لبنان يُمثّلُ خصمًا عسكريًا هائلًا ولكنه تقليدي. وعلى النقيضِ من ذلك، انقسمت سوريا اليوم إلى دولٍ عدة شبه مستقلة، حيث تعمل قوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المدعومة من إيران على الأراضي الخاضعة لسيطرة حكومة بشار الأسد. ونتيجةً لهذا، أصبح التهديد من سوريا أكثر تنوُّعًا اليوم، مما يجعلها هدفًا لغاراتِ القوات الخاصة والضربات الجوية الإسرائيلية في أماكن بعيدة من لبنان. ومع انخراط القوات البرية الإسرائيلية أيضًا في غزة والضفة الغربية، وانخراط القوات الجوية والصاروخية الإسرائيلية في ضربات انتقامية ضدّ أهداف في اليمن فضلًا عن إيران نفسها، فإنَّ إنهاءَ القتال ضد عدوٍّ واحد لن يؤدّي تلقائيًا إلى وقف الأعمال العدائية في مناطق أخرى. ومهما كانت الكارثة التي حلّت على شارون في المستنقع اللبناني، فإنَّ خلفاءه المباشرين تحت قيادة نتنياهو يواجهون مجموعة أكثر تعقيدًا من التحدّيات العسكرية.

إن ما يزيد من تفاقم طبيعة هذا الصراع المُتعدّد الجبهات هو المدى الذي أدّى فيه التركيز الإسرائيلي على العمليات العسكرية إلى تهميش الجهود التي أثمرت على مدى السنوات القليلة الماضية لتطويرِ استراتيجيةٍ سياسية قابلة للتطبيق لعلاقات إسرائيل مع منطقتها الأوسع. إنَّ الجهودَ الإسرائيلية الدؤوبة لتفكيك “حماس” تبدو على نحوٍ متزايد وكأنها حملةٌ انتقامية ضد السكان الفلسطينيين على نطاق أوسع في غزة. ومع الضغائن القديمة ضد “حزب الله” بين كبار الضباط الإسرائيليين والتي تعود إلى حروب الثمانينيات والتسعينيات فضلًا عن الصراع الحدودي الأكثر حداثة في العام 2006، فإنَّ الإخلاء القسري لمناطق بأكملها في جنوب لبنان في محاولة لعزل مقاتلي “حزب الله” يشير إلى أن حكومة نتنياهو على استعدادٍ لإحداثِ النوع نفسه من الدمار هناك، وفي المناطق التي يسيطر عليها “حزب الله” في بيروت والبقاع، كما شهد الفلسطينيون في غزة.

لكن في تركيزها على تدمير شبكة شركاء ووكلاء وعملاء إيران، لم تُقَدِّم إسرائيل أيَّ استراتيجية واضحة للتعامُلِ مع العلاقات مع غزة ولبنان بعد تحقيق النجاح العسكري. في حين لا ينبغي التقليل من شأن قدرة الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات على تفكيك القدرة العسكرية ل”حماس” و”حزب الله”، إذا لم تتبع هذه الانتصارات التكتيكية جهودٌ ديبلوماسية لتمكين استعادة الاستقرار، فإنَّ الإسرائيليين سيواجهون ظهورَ تهديدات جديدة من الفوضى الناجمة عن استجابتهم لهجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

على النقيض من ذلك، ورُغم أنَّ خطة شارون المُتهوّرة للمنطقة في العام 1982 أساءت فهم المجتمع اللبناني تمامًا، فإنها على الأقل عكست وعيًا غامضًا بين النخبة الإسرائيلية آنذاك بأنَّ العمليات العسكرية لا بدَّ وأن تتدفّق من استراتيجياتٍ سياسية لتعزيز النظام الإقليمي المستقر. وبمجرّد أن أصبح من المستحيل إنكارُ الفشل الكارثي الذي لحق بخطط شارون المُتطرّفة، انخرطَ الزعماء الإسرائيليون الذين يتمتّعون بفَهمٍ أكثر دقّة للمجتمعات العربية في عملية التواصل الديبلوماسي التي أدت إلى توقيع اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، والتي وَلّدَت لفترةٍ وجيزة الآمال في تحقيقِ سلامٍ دائم في الشرق الأوسط.

لكن في بيئةِ ما بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) حيث كلُّ ما يُوحّدُ المجتمع الإسرائيلي المُنقَسِم بعمق هو الاعتقاد بضرورة تدمير “حزب الله” و”حماس”، فمن الصعب أن نرى كيف يُمكن للاستراتيجيات السياسية الرامية إلى تطويرِ علاقاتٍ مُستقرّة مع العالم العربي أن تنشأ من داخل الدولة الإسرائيلية. لقد أدى عجزُ إسرائيل عن صياغةِ استراتيجيةٍ سياسيةٍ مُتماسكة إلى تناقُضاتٍ مستعصية في أهدافها، والتي تتجلّى في مطالبها بتدخُّل الدولة اللبنانية للسيطرة على “حزب الله”، في حين تعمل جهودها العسكرية لتدمير “حزب الله” على إضعاف الدولة اللبنانية نفسها الهشّة أصلًا. وفي ظل عدم رغبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ممارسة الضغوط التي قد تُجبرُ القيادة الإسرائيلية على إعادة النظر في مسارها الحالي، فإنَّ النظام السياسي الإسرائيلي الذي تُهيمن عليه أحزابٌ يمينية أكثر تطرّفًا من أسلافها قبل أربعين عامًا قد يجد نفسه حبيسَ حالةِ حربٍ دائمة ضد التمردات والدول الفاشلة التي قد يجعل عدم استقرارها أي نوع من التسوية السلمية مستحيلًا.

إنَّ غزوَ لبنان الذي شنّه أرييل شارون في العام 1982، باعتباره نقطة مرجعية تاريخية واضحة للصراعات الحالية، يُستَشهَدُ به في كثير من الأحيان كمثالٍ على كيف يمكن للحملات العسكرية الإسرائيلية الحالية أن تفشلَ فشلًا ذريعًا. لكن عند فحصها عن كثب، فإن الاختلافات بين المعضلات الاستراتيجية التي واجهتها إسرائيل في أوائل الثمانينيات والصراع المتعدد الجبهات الذي يبدو أن المجتمع الإسرائيلي غير قادر على الهروب منه اليوم تشكّلُ مؤشّرًا صارخًا إلى مدى تدهور البيئة الجيوسياسية في الشرق الأوسط في السنوات الأربعين الماضية. وإذا كان هناك درسٌ حاسمٌ يمكن تعلُّمه من التناقضات بين غزو شارون آنذاك وحروب نتنياهو الدائمة اليوم، فهو أنه حتى في خضم أسوَإِ السيناريوات، يمكن أن تسوءَ الأمورُ دائمًا أكثر.

  • ألكسندر كلاركسون هو محاضر في الدراسات الأوروبية في كينغز كوليدج لندن. يستكشف بحثه التأثير الذي خلفته مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية على سياسات ألمانيا وأوروبا بعد العام 1945 وكذلك كيف أثرت عسكرة نظام الحدود في الاتحاد الأوروبي في علاقاته مع الدول المجاورة.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى