هل يمكن لدفءِ العلاقاتِ بينَ الرياضِ وبيروت أن يُخَفِّفَ من هَيمَنَةِ طهران على لبنان؟

مايكل يونغ*

لسنواتٍ، كان الزوّارُ اللبنانيون إلى المملكة العربية السعودية الذين كانوا يلتقون كبارَ أعضاءِ الحكومة السعودية يتحدّثون عن ترَدّدِ الرياض تجاه السياسة اللبنانية، وكانوا يشتكون من الهَيمَنة الإيرانية الساحقة على المشهد السياسي في لبنان.

ربما كان ذلك صحيحًا، ذلك أنَّ التدخّلَ السعودي في لبنان كان يبدو في كثيرٍ من الأحيان وكأنه مُهمّة لا تستحق الشكر من قبل اللبنانيين. وعلى الرُغم من الاستثمار السعودي في البلاد، وقرار الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز إيداع مليار دولار في بنك لبنان المركزي في العام 2006 لدعم الاقتصاد، بدا أن القوة الإيرانية، التي يُمثّلها بالوكالة “حزب الله”، كانت تنمو على مرِّ السنين. ومع ذلك، تشيرُ أشياءٌ عدّة الآن إلى أنَّ الوضعَ بدأ يتغيّر.

من هذا التغيير، يبدو أنه من السابق لأوانه الإفتراض بأنَّ المملكة العربية السعودية ستعود إلى ضخِّ الأموال في الاقتصاد. بدلًا، هناك دلائل تشير إلى أنَّ المملكة قد تكون أكثر انفتاحًا على تعزيز مصالحها السياسية في الشؤون اللبنانية، حتى يتمكّن حلفاؤها المحلّيون وحلفاءُ طهران من التعايش، وتحقيق التوازن بين بعضهم البعض بشأن بعض القضايا الرئيسة، والتفاوض على تسوياتٍ مفيدة للطرفين.

ولعلَّ ما سمح بذلك، من بين العديد من التطورات، هو التقارب السعودي-الإيراني الذي حصل في آذار (مارس) القائت، والذي سهّلته الصين. ومع تحسُّنِ العلاقات بين الرياض وطهران، سينعكس ذلك بالضرورة في لبنان، حيث تعكس العلاقات الطائفية في كثير من الأحيان التوتّرات الإقليمية، أو على العكس، المُصالحات.

هناكَ شيءٌ آخر قد يساعد أيضًا على تسهيل تحسّن العلاقات السعودية مع لبنان. منذ الانهيار الاقتصادي في العام 2019، فشل “حزب الله”، القوة السياسية المُهَيمنة في البلاد، في إقناعِ العديدِ من اللبنانيين بأنَّ لديه أي خطة اقتصادية واقعية لإنعاشِ البلاد. بل على العكس، عمل الحزب على حماية القيادة السياسية الفاشلة، وكان حلفاؤه الرئيسيون من بين الأكثر مقاومة للإصلاح.

في هذا السياق، أصبح “حزب الله” محلَّ نزاعٍ مُتزايد في الداخل، حيث عارض الكثيرون في الطائفة السنّية أجندته، وكان كثيرون آخرون في المجتمعات المسيحية وحتى الدرزية مُعادين للحزب. وفي هذا السياق، يبدو أن هناك اهتمامًا من قيادة “حزب الله”، ومعها إيران، بتحقيق الاستقرار في بيئة الحزب من خلال التوصّلِ إلى تسويةٍ مؤقتة مع الطوائف الأخرى، وخصوصًا تلك التي تريد أو تربطها علاقات وثيقة مع السعودية.

وقد حدثت علامة كاشفة على تحوّلٍ دقيق في الرياض في أيلول (سبتمبر) الماضي، عندما استضاف السفير السعودي وليد البخاري مبعوث فرنسا إلى لبنان، جان إيف لو دريان، إلى جانب مفتي البلاد السنّي الشيخ عبد اللطيف دريان ومجموعة كبيرة من البرلمانيين السنّة. في ذلك الوقت، كان لو دريان يحاول حلَّ المأزق بشأن رئاسة لبنان. بالنسبة إلى العديد من اللبنانيين، كانت دعوة السفير لممثلي هذه الطوائف وسيلةً للإظهار للمبعوث الفرنسي أنَّ المملكة يُمكن أن تُشَجّعَ دعمهم لأيِّ اتفاقٍ يتمُّ التوصّل إليه.

تاريخيًا، كانت لزعماء بارزين من الطائفة السنّية في لبنان علاقاتٌ قوية مع الرياض. ويُمكنُ القول إنها أكبر طائفة في البلاد، ولا تشمل اللاجئين السوريين، الذين غالبيتهم من السنة أيضًا. في ضوء ذلك، سعى “حزب الله” وإيران بشكلٍ متزايد إلى الحفاظ على علاقاتٍ جيدة مع أهل السنّة في لبنان، الذين يمكن أن يُشكّلوا تحديًا ل”حزب الله” إذا قاموا بالتعبئة ضده الحزب.

كان البخاري نشطًا بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة. المملكة العربية السعودية هي واحدة من خمس دول في مجموعة الاتصال الخاصة بلبنان، إلى جانب الولايات المتحدة وفرنسا وقطر ومصر، التي تتمثل أولويتها في ملء الفراغ الرئاسي. وفي الاجتماعات التي عُقدت في كانون الثاني (يناير)، استضاف البخاري جميع سفراء هذه الدول في منزله.

وفي حين أنه من غير الواضح ما الذي تمخّضَ عن الاجتماعات، إلّا أنَّ ممثلي الدول الخمس سيجتمعون هذا الشهر، لذا من الممكن أن تكون الاجتماعات تحضيرًا لذلك. قبل كل شيء، كانت هناك رسالة واضحة مفادها أن المملكة العربية السعودية تلعب دورًا ديبلوماسيًا في المناقشات حول الرئاسة، في حين كانت هناك دلائل في العام الماضي على أنَّ المملكة لم تكن مهتمة بشكلٍ خاص بالمشاركة.

يدركُ كلٌّ من “حزب الله” ومرشّحه الرئاسي سليمان فرنجية أنَّ تحسينَ العلاقات مع الرياض سيكون مهمًّا لرئيس لبنان المقبل. ويُدرك “حزب الله” أيضًا أنه لا يمكن الخروج الحقيقي من الأزمة الاقتصادية اللبنانية من دون دعمٍ من الدول العربية الأكثر ثراء، ولهذا السبب فإنَّ الدعم السعودي لأيِّ حلٍّ بشأن الرئاسة أمرٌ بالغ الأهمية.

وهذا يخلق وضعًا مُثيرًا للاهتمام بالنسبة إلى لبنان. لا أحد يتوقع أن يتضاءل النفوذ الإيراني في البلاد، لكن مع استفادة دول أخرى، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، من احتياطاتها الكبيرة من التعاطف في البلاد، فإنَّ هذا يمكن أن يحوّل لبنان تدريجًا إلى مصلحة مشتركة، ما يُجبِرُ إيران و”حزب الله” على التوصّل إلى تسوية ومواصلة التعاون بشكل أفضل مع المجموعات الأخرى.

في كثيرٍ من النواحي، قد يعكس هذا ما سعى إليه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما قال لمجلة “أتلانتيك” في العام 2016: “المنافسة بين السعوديين والإيرانيين … تتطلّب منا أن نقول لأصدقائنا وكذلك للإيرانيين إنهم بحاجة إلى إيجادِ طريقةٍ فعّالة لمشاركة الحي وإقامة نوعٍ من السلام البارد”.

ورُغمَ أنَّ العديد من البلدان قد تنفر من كونها “متقاسمة” مع أيِّ طرف، فإنَّ لبنان، بسبب انقساماته الطائفية، كان دائمًا عرضةً للمنافسات الإقليمية، التي كثيرًا ما أصابت السياسة الداخلية بالشلل. وهذا ما مكّن إيران من السيطرة على أعلى القيادات اللبنانية عبر “حزب الله”. ولكن إذا كان من الممكن موازنة ذلك من خلال تأثير الآخرين، فيمكن للمرء أن يتصوّرَ أن الهيمنة الإيرانية قد يتم تخفيفها.

أحد الاجتماعات التي عقدها البخاري في كانون الثاني (يناير) كان مع سفير إيران في بيروت، مجتبى أماني. أظهر اللقاء، الذي وصفته وسائل إعلام محلية بأنه ودّي إلى حدٍّ ما، أنَّ هناك على ما يبدو استعدادًا جديدًا لدى الجانبين للتعاون على الجبهة اللبنانية. ومع ذلك، لا يمكن للمرء أن يفترضَ أنَّ جميعَ الاختلافات سوف تختفي بطريقةٍ سحرية.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى