بين الباحة والساحة

بقلم راشد فايد*

من يَنظر إلى حال لبنان السياسية، اليوم، من خارجها، يصدمه “فالق” زلزالي غير مرئي، يفصل بين أهله والطبقة السياسية التي ضلّلتهم بقانون انتخابي، مسخ، أعادها ومعها نظرتها القاصرة عن أي أفق استراتيجي، بان عجزها عنه في تفرّجها على ما يجري. فمنذ ولادة الإنتفاضة الشعبية وحتى اليوم (وربما بعد ردح من الزمن) لم يلحظ أي متابع ليوميات الإنتفاضة نقطة تماس، أو لحظة تلاقٍ، بين ما يريده الناس، وما يُفكّر به القائمون على التفليسة – الدولة، باستثناء ما أذاعه رئيس الحكومة المُستقيل من بنود إصلاحية، بعد 3 أيام من انطلاق الحركة الشعبية، ومنها 72 ساعة تركها لأهل السلطة مهلة لتحديد أوجه الإصلاح المطلوب، أعقبتها استقالته وحكومته نهاية الشهر نفسه.

أربعة أسابيع على إنطلاقة الإنتفاضة، لم يتفاعل خلالها أهل الحكم مع الشارع، باستثناء نجاح السيد حسن نصرالله بتحييد اسمه عن لائحة “كلّن يعني كلّن” بالترهيب المعلوم الذي يُسمّيه اللبنانيون بـ”عقوبة السحسوح” الذي كلما ظهرت نتائجه أكد أن سلبطة “حزب الله”، إياه، على خيارات الناس السياسية لم تعد بـ”الرهبة” التي كانت عليها قبل 17 تشرين الأول (أكتوبر). بينما حليفه “رئيس الجمهورية القوي” لجأ إلى الأجهزة لتحقيق النتيجة نفسها، فيما فعلت “حركة أمل” ما يجب لتأديب من يأتي على ذكر رئيسها، وأخرجته، بـ”لطف مشهود” من “اللائحة”، فأعيد التناسق إلى الثنائية الشيعية، على مضض.

كادت لائحة مشاريع قوانين تُوحي بتجاوب جدي مع ضرورة الإصلاح لكن الإعتراض الشعبي فضح سوء طويتها.فالجدية الأولى تبقى في استشارات نيابية مُلزِمة لتسمية رئيس مجلس الوزراء المُكلَّف، وتركه يشاور الكتل في تشكيلة الحكومة، لتنطلق بتنفيذ الإصلاحات الموعودة.  لكن يبدو الرئيس القوي مُهتَّمّاً بمعركة صامتة للعودة إلى الدستور القديم والصلاحيات البائدة، من طريق تحريفٍ في الوقائع الدستورية.

في القرن الخامس عشر الميلادي، حاصر السلطان العثماني محمد الثاني القسطنطينية، وبينما كان مصير الإمبراطورية بأكملها على المحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولاً بمناقشة أمور فقهية ولاهوتية لا طائل تحتها، مثل جنس الملائكة (ذكور أم إناث)، وحجم إبليس (كبير لا يسعه مكان، أم صغير يعبر من ثقب إبرة) ولم يفلح الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر في صرفهم عن الجدل العقيم لمواجهة الغزاة بينما تمكّن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوارها، والسيطرة عليها.

لا تَشابُه بالتأكيد بين أهل بيزنطية وأهل لبنان، بل تنافر في الوقائع، أبرز نقاطه أن رأس السلطة البيزنطي كان من الحكمة بما سمح له بالتنبيه لمخاطر الغرق في الجدل، وعدم الإلتفات إلى الكارثة المقبلة. بينما رأس السلطة عندنا فهو جزء من المشكلة التي يعيشها البلد. إلّا فليدلّنا بشري على غير خطاب الإنحياز إلى تيار باحة بعبدا بدل مخاطبة كل الساحات في الوطن والمهجر، وإلى حقوق المواطن بلد حقوق الطوائف.

  • راشد فايد كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني، وكاتب رأي في صحيفة “النهار اللبنانية. يُمكن التواصل معه على fayed@annahar.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى