هكذا انهارت “كونتوارات” المصارف
بقلم البروفسور بيار الخوري*
كانت لحظات سوريالية شبيهة بأفلام “الأكشن” تلك التي شهدتها فروع المصارف اللبنانية بعد يومين من إعادة فتحها بعد عودة انتظام العمل المصرفي في ظل استمرار سخط الشارع.
لا يغيب عن ذهني أبداً مشهد تلك المُوَظّفة الجالسة خلف مكتبها تصبّ جام غضبها على الشخص الذي كان يحادثها بالهاتف طالباً سحب مبلغٍ من المال، قبل أن تقفل في وجهه الخط “بطبش” السماعة الممتلئة بعجرفة واستعلاء مَن عبّأ فراغه برفاه الكرسي الذي يجلس عليه.
لم يتصرّف معظم موظفي القطاع المصرفي، وخصوصاً مَن هم على تماس مباشر مع جمهور المُودِعين، بما يليق بقطاعٍ مصرفي عريق لعب دور النموذج لكل بنوك المنطقة، وخرّج لها افضل الكادرات التي نافست خيرة الكفاءات الدولية.
منذ ان بدأت مشكلة السيولة المصرفية قبل أشهر لاحظ الناس ان موظفي “الكونتوارات” يتصرّفون بطريقة غير اعتيادية، حيث كان سحب مبلغ غير كبير نسبياً يستدرج الموظفين للتحلّق حول العملاء، وفي حالات كثيرة تدخل مدراء الفروع لثني المُودعين عن السحب. لقد اكتشف الجمهور بسهولة أن هناك مشكلة ما، وبدأت تتطابق الروايات من مصادر عدة حول هذا النوع من السلوك الغريب.
لم يُظهِر هؤلاء الموظفون مهارات ليّنة (soft skills) ضرورية اليوم في كل عملٍ، تجارياً كان أو غيره. على العكس أثبت اليومان الاخيران من عمل المصارف أن هذه الاجهزة النخبوية غير مُصمَّمة اساساً للتعامل مع الأزمات، ولا للتعامل مع الغضب أو لادارة لحظة صعبة.
تصرّف العسكر المُدرّب على قمع الشغب بكفاءة ومهارة عاليتين في التواصل والمهارات الليّنة وكسِب قلب الجمهور الغاضب، ولم يُحسِن فعل ذلك أولئك المستقطبون أساساً لخدمة الناس.
ويبدو أنه كونهم يعتبرون أنفسهم الموظفين الأكثر دلالاً في القطاع الخاص، فقد عاش هؤلاء دائماً بصفتهم فئة خاصة مُتعالية ترفض تصنيف نفسها ضمن مجتمع الموظفين الأوسع. لقد انهارات “كونتوارات” المصارف سريعاً، وسقط خط الدفاع الاول عن سمعة القطاع المصرفي تحديداً لهذا السبب المباشر. لم يتخيّل معظم هؤلاء (بإستثناء تلك الفئة الرائعة من الموظفين التي عرفت دائماً أن تُوَازن بين قوة العاطفة وسلبيات الأنا، وهم قلّة) ان العملاء الذين اعتادوا على إظهار مشاعر الإحترام الممزوج بالدونية تجاه هذا الجهاز المُتعالي، بما ساهم اساساً في تحويل هذا التعالي الى آفة مرضية، لم يتخيلوا ان هؤلاء بالضبط سيعاملوهم بكل هذا التعنيف اللفظي حين تصل الامور لثرواتهم صغيرة كانت أم كبيرة. كانوا مُندَهشين كأن هؤلاء الزبائن يعتدون على هذه الخصوصية المُتعالية من دون الإلتفات لحقيقة المشكلة العميقة لدى هؤلاء.
شكّل هذا السلوك، المصوّر بكامله على مواقع التواصل، رافعة للقفز الى عربة السيرك ( Bandwagon effect) فامتلأت الفروع بطالبي المال. إنكسر التوازن بين الجمهور الغاضب والجهاز المُتعالي وانهارت “الكونتوارات”.
كما تحضرني أيضاً صورة تلك السيدة الفاضلة الخمسينية، التي تُظهر صورة معاكسة، حيث خرجت من مكتبها في عزّ الهرج والمرج وكأنها تحسّ ان طعنات سكاكين الأرض كلها أقل من وجعها. موظفةٌ وقورة ومحترمة كانت تحب ان تُنهي مسيرتها المهنية برأسٍ مرفوع رغم التواضع كما بدأته، تخرج الى العميل الغاضب راجية منه بكل انكسار وطيبة َواحترام التفضّل الى مكتبها لمناقشة مطلبه… ذلك جيلٌ لن يعود وتلك خصال ٌ ذهبت.
- البروفسور بيار الخوري، أكاديمي وباحث إقتصادي لبناني.