التجربة السياسية في تونس هي الرابح الأكبر

بقلم ه. إ. هيلير*

بعد نحو عقد من الزمن على بدء الإنتفاضات الثورية العربية، تُواصل تونس تحويل العادي – العملية السياسية لانتخاب رئيس وبرلمانيين جدد بحرية – إلى شيء غير عادي. لقد كان الفائزون عديدين في الإنتخابات الرئاسية التي أُجريت يوم الأحد الفائت في تونس. الأول، بالطبع، هو قيس سعيّد، الذي حقق فوزاً ساحقاً، بأكثر من 72 في المئة من الأصوات، وفقاً لاستطلاعات الرأي والنتيجة الأولية التي أعلنتها لجنة الإنتخابات في تونس.

جاء أستاذ القانون من عالم الغيب، وهو شخص غير معروف نسبياً، إلى مُنافسةٍ حظي فيها منافسه، نبيل القروي، بفرصة جيدة للفوز، وذلك فقط لأن الأخير كان يتمتع بعضلات مالية وأصول وشهرة كقطب تلفزيوني. علاوةً، مثّل القروي الخيار غير المحافظ في بلد تفتخر فيه مساحات شاسعة من النخبة السياسية بالميراث العلماني للعديد من السياسيين المعاصرين. وإذا كانت هذه الإنتخابات تتعلق بالإمتياز والشهرة والمكانة، لكان القروي قد حقّق نصراً سهلاً.

لكن الأمر لم يكن يتعلق بالإمتياز أو المكانة. كما لم يكن الأمر يتعلق بنوعٍ من المنافسة الثنائية حيث يتم تحريض العلمانيين ضد الإسلاميين. كانت الإنتخابات حول أمر أعظم من ذلك. كان الأمر يتعلق برغبة التونسيين في أن ينأوا بأنفسهم عن إخفاقات الشخصيات والأحزاب السياسية الراسخة، ومَن يُريدون أن يقودهم إلى المستقبل.

أتذكّر الكثير من المرات عندما قيل لي، في أثناء زياراتي للعواصم الغربية، أن الإنتقال السياسي الحرّ والمفتوح نادراً ما ينجح ويعمل في العالم العربي. إن تونس تُظهر أن هذا السرد ببساطة غير صحيح. لقد سمعتُ أيضاً رأياً يقول أن الإسلاميين لا يدعمون هذا النوع من العملية السياسية، ولكن في تونس فاز الإسلاميون بغالبية المقاعد البرلمانية في الإنتخابات الأولى التي تلت الانتفاضة – وبدلاً من إفساد التجربة الديموقراطية، فقد ساعدوا على إدامة هذه العملية. في هذه الأثناء، إنبثق المرشحان الرئاسيان في هذه الجولة الثانية من خلفيات غير إسلامية. في الواقع، كان أداء المتنافسين الإسلاميين في الدورة الأولى سيئاً.

سيقول كثيرون بعد ذلك أن تونس إستثنائية. إلّا أنه لم تُعتبَر قط إستثنائية قبل العام 2011. على العكس، تم تسويق الضغوطات والتوقّعات المُنخفضة على التونسيين تماماً كما كان الحال في أي مجتمع آخر في العالم العربي الأوسع. إذا كانت هناك صفات إستثنائية تُنسَب إلى تونس، فربما لا يوجد سوى صفتين؛ أولاً، تتمتع البلاد بالحكم الذاتي بالنسبة إلى العملية السياسية الخاصة بها، بدلاً من التدخل الأجنبي الواسع. ثانياً، لأن السلطة السياسية منتشرة في البلاد بشكل جيد، لا يُمكن لأحد أن يأمل أن يلعب لعبة نتيجتها صفر ويفوز. لذا في هذا الصدد، فإن التونسيين هم الفائزون مرة أخرى، مما يُثبت خطأ المُعَمّمين والأصوليين عن العرب والمسلمين.

لا يزال مستقبل المشروع التونسي بعيداً من الأمان، لكن هناك بعض الجوانب الواعدة لمشهده السياسي. الأول ديموغرافي. وكما ذكرت زميلتي في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ميشيل دن، بأن أحد العاملين في المجتمع المدني التونسي أخبرها قائلاً: “لدينا جيل أكبر سناً لا يزال مُندهشاً من أنه يُمكنه أن ينتخب ممثليه، وجيلٌ أصغر سناً أصبح هذا الأمر طبيعياً بالنسبة إليه. هذا الجيل الأصغر سناً – 90 في المئة منه إقترع لصالح سعيّد في جولة الإعادة – يُشكّل غالبية السكان، وإنتخابات تونسية حرة ونزيهة، التي لا تزال عملية جديدة نسبياً، ستصبح مع الوقت القاعدة بالنسبة إليه.

وبالتالي فإن الفائز ليس قيس سعيّد فقط. إنها التجربة السياسية في تونس التي ظهرت منتصرة وحقيقة أن مثل هذه الإنتخابات يُمكن أن تتم بدعمٍ واسع ومشاركة كبيرة (55%) وغياب العنف. هذا النوع من الإنتقال السلمي لا يجب إعتباره أمراً عادياً.

هل سعيّد هو أفضل مرشح لهذا المنصب؟ يبقى أن نرى ذلك – لأن معظم قضايا السياسة التي يريد الناخبون سماعها عادة ما زالت غير معروفة. لكنه بالتأكيد إكتسب ثقة الفصائل المختلفة بالفعل، بما في ذلك حركة “النهضة”، المجموعة الإسلامية الوسطية التي أظهرت نفسها على أنها مُلتزمة بالعملية السياسية في تونس، فضلاً عن عدد من الجماعات اليسارية. في مثل هذه الأوقات، تتخذ السمعة جميع أنواع الأشكال، وغالباً ما تظهر كسيرة قديس – لكن أداءه في الأشهر المقبلة هو الذي سيُظهر ما إذا كانت لديه القدرة المناسبة. علاوةً، سيتعيّن عليه العمل مع البرلمان ورئيس الوزراء الذي لا يُمثّل أي حزب، بسبب نتائج الإنتخابات البرلمانية في الشهر الماضي. إن تحديات القيام بذلك، خصوصاً مع القضايا الإقتصادية والأمنية التي يواجهها البلد، هي تحديات هائلة بالفعل.

ومع ذلك، تتم مواجهة ومعالجة كل هذه التحديات من خلال المؤسسات التي يمكن لجميع المواطنين الوصول إليها. التغيير يحدث في تونس. إن نسيج الحياة السياسية يُنسَج أمام أعيننا والتاريخ في طور التكوين. وهذا لا يحدث بسبب العنف في الشوارع ولا حتى جرّاء خطر الإضطرابات. إنه يحدث بسلام، بطرق قد تكون موضع حسد العديد من الديموقراطيات في الغرب. الفائز الحقيقي هو تونس.

  • الدكتور ه. إ. هايلير هو زميل كبير مشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة ومؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى