تونس على طريق الإفلاس؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

حذّر خبراء ماليون أخيراً من عواقب وخيمة تُهدد بخلخلة الإقتصاد التونسي المترنّح أصلاً جراء الإنخفاض الحاد في مخزون العملة الصعبة الذي تدحرج إلى مستويات حرجة للمرة الأولى منذ 15 عاماً، في حين تستعد الحكومة لمزيد من التداين الخارجي لتعبئة رصيدها.
وكشفت بيانات البنك المركزي التونسي أن احتياطي العملة الأجنبية بلغ 11.868 مليار دينار (خمسة مليارات دولار) في السادس من شباط (فبراير) الجاري. ولا تكفي هذه المدخرات سوى لتوريد 84 يوماً، بينما كان رصيد العملة الصعبة يغطي أكثر من 100 يوم على الأقل في الفترة عينها من العام الفائت.
وتقف وراء هبوط العملة الصعبة أسباب عديدة؛ أبرزها ارتفاع عجز الميزان التجاري البالغ العام الماضي 15.6 مليار دينار (6.5 مليارات دولار)، والناتج من تراجع الصادرات التونسية، خصوصاً في قطاع الطاقة، مقابل إرتفاع الواردات، بحسب مصادر مالية مطلعة.
وهذه الأزمة المتلبدة في سماء الإقتصاد التونسي يرجع الإقتصاديون أسبابها أيضاً إلى السياسة الحكومية لتعويم الدينار طبقاً لتعليمات صندوق النقد الدولي، أبرز ممولي الدولة التونسية، إذ طلب من البنك المركزي بألّا يتدخل للحد من انزلاق الدينار بوقف ضخ العملة الصعبة في السوق. وترك قاعدة العرض والطلب تتحكّم وحدها في السوق ليأخذ الدينار قيمته الحقيقية المتدنية أمام الدولار واليورو له “عواقب وخيمة” على الإقتصاد؛ لأنه “سيكون مُكلفاً جداً في إرجاع الديون الخارجية وفي توريد المواد الأولية، وهذا يزيد نسبة التضخم المستورد ويُضعف الإستثمار.
والواقع أن الأزمة ليست وليدة الساعة، فجذورها تمتد إلى أبعد من ذلك…
منذ ثماني سنوات ونحن غارقون في وحل لزج، ويمرّ اليوم موصياً الموالي بأن يكون أتعس، ولذلك فليس من غرابةٍ أن ينحدر أداء السلطة إلى الحضيض، ويضطر البنك المركزي إلى القيام بتعديلٍ نحو رفع النسبة المديرية لكراء المال للمرة الخامسة، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولعلّ الأخطاء التي ارتُكِبت، أكاد أقول عن قصد وسابق إضمار، منذ 2011، هي سبب مباشر ومتراكم لما هي عليه تونس اليوم. فقد كان تعيين وزير الداخلية فرحات الراجحي كارثة وأي كارثة، ثم جاءت إستقالة حسين الديماسي من وزارة المالية بعد 6 أشهر على تعيينه في حزيران (يونيو) 2012 لرفض برنامجه الاصلاحي الذي كان مُمكناً اعتماده مباشرة بعد الثورة وفي خضمها، ما اضطره إلى إستقالة لم يكن منها بدّ لاختلاف كبير مع حكومة “النهضة” التي اتسمت في تصرفها وقتها بقلة المسؤولية. وجاءت ثالث الأثافي عندما التقت “النهضة” الحاكمة ورافديها الضعيفين مصطفى بن جعفر ومنصف المرزوقي على إزاحة مصطفى كمال النابلي من منصب محافظ البنك المركزي، مما قاد البلاد على مدى سنوات على طريق التخبط النقدي، وغياب أي سياسات مالية إقتصادية منطقية للدولة، حتى جيء بالمحافظ الحالي مروان العباسي، الذي أقدم منذ تسلمه منصبه على دفع البلاد لتناول دواء مر على جرعات صغيرة، لم تكن كافية لتقويم مسيرتها، أولاً بسبب ضعفها وضعف مردودها، وثانياً باعتبار أنه لم ترافقها سياسة مالية ولا اقتصادية للدولة ممثلة في الحكومة الحالية، واستقالة من السلطة القائمة، ومطالبات شعبوية فوق الطاقة تجني البلاد اليوم ثمارها الحنظل وما زالت تجني، لعدم الرغبة – القدرة على اتخاذ القرارات المرة الموجعة التي باتت أكثر من لازمة، وكل تأخير فيها – ولا يبدو أن هناك حرصاً على اتباع خطواتها – لا يعني سوى مزيد من الغرق في وحلٍ لزج أسود من سواد الوضع الحالي الذي وصلت إليه البلاد، في انتظار مرحلة قد يصل فيها الأمر إلى الاضطرار لا فقط إلى تجميد المرتبات بل لعل الأسوأ من ذلك، وتكف فيه السلطة عن سداد مستحقات مزوديها، والمذاق الأول هو ما شهدته البلاد خلال الأشهر الأخيرة من سياسة القحط والفقدان والندرة، وهو ما انقطع منذ عشرات السنين.
الانتاج تدنى إلى الأدنى، وقيمة العمل انعدمت ونسب النمو تدهورت، وما تبع ذلك من انحطاط في الأخلاق، وانصراف عن بذل الجهد مع مطلبية متصاعدة، فانخرمت كل التوازنات ولا يبدو مع استقالة الحكام أن هناك أي أمل في إصلاح الأوضاع .
كل المؤشرات من سوء إلى الأسوأ، والتوازنات في المالية العمومية، وفي الميزان التجاري، وفي إنتاجية العمل، كلها في انحدار ومعها الإستثمار ومحيط الإستثمار القادر وحده على خلق الثروة، وعلى توفير مناصب الشغل. ورغم جهود البنك المركزي للترقيع عبر ما يتوفر لديه من وسائل محدودة، في غياب جهد حكومي معدوم منذ ثماني سنوات قاد البلاد إلى الحضيض وما زال يقودها، وليست سنة الاستحقاقات الانتخابية هي التي ستشهد تحسناً، بل إن الوعود الديماغوجية هي المسيطرة، والطوفان قادم، وكلٌّ يرمي المسؤولية على الآخر، الشعب على الحكومة والحكومة على الشعب، وكلاهما ليس لديه روح المسؤولية التي عرفتها بلادنا في وقت من الأوقات.
وكان الله في عون تونس…

• عبد اللطيف الفراتي كاتب وصحافي تونسي مخضرم، كان رئيساً لتحرير صحيفة “الصباح” التونسية ومراسلاً لصحف ومجلات عربية عدة. يُمكن التواصل معه على العنوان البريدي التالي: fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى