صعود القوة الإسلامية الناعمة: الدين والسياسة الخارجية في العالم الإسلامي

تحوّل الإسلام إلى موضوع رئيسي، بل وهاجس، في النقاش العام على مدار العقدين الماضيين. من الجهود التي بذلتها الجماعات الإسلامية مثل جماعة “الإخوان المسلمين” للوصول إلى السلطة من خلال صناديق الإقتراع، إلى الراديكالية العنيفة لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، كانت الصورة المُهيمنة للإسلام في السياسة العالمية هي الإيديولوجية الدينية التي تدفعها جهات غير حكومية ترغب في رؤية السياسة في شكل “إسلامي” أكثر. لكن ماذا عن الدول نفسها؟

الرئيس عبد الفتاح السيسي: تحديث منهج جامعة الأزهر الإسلامي كجزء من “ثورة دينية” أوسع

بقلم بيتر ماندافيل وشادي حميد*

غالباً ما تبدو النزاعات بين حكومات الشرق الأوسط أنها تدور حول القوة الصارمة أو الصلبة، وفي حالات كثيرة هي كذلك. فمثلاً تقود المملكة العربية السعودية حرباً في اليمن ضد الحوثيين، والتي تعتبرها بمثابة مواجهة ضد التوسع الإيراني. لكن هناك جانباً آخراً لمعظم الحكومات المُسلمة: فهي أيضاً تستخدم، وتنتهك، الإسلام لأغراض سياسية.
في كل بلد تقطنه غالبية مسلمة، يُعتبَر الإسلام عملة إيديولوجية مهمة – وأحياناً الوحيدة – التي تختلط بفعالية مع سياسة واقعية أكثر اعتدالاً. مع تراجع الإشتراكية والعروبة في الشرق الأوسط، تأتي المنافسة الإيديولوجية الحقيقية الوحيدة للإسلام من القومية. لكن القومية، بحكم تعريفها، يصعب تعزيزها خارج الدولة. هذا يعني أن الحكومات – حتى العلمانية منها والتقدمية – لديها حافز قوي لإدخال الإسلام في سياستها الخارجية، باستخدام الأفكار الدينية لزيادة هيبتها وتعزيز مصالحها في الخارج – لنشر، وبعبارة أخرى، ما نسميه “القوة الإسلامية الناعمة”.
مع ذلك، هناك نقطة. حالما يتم حقن “الإسلام” في المناقشات العامة، فإن كيفية تفسير المواطنين لدينهم يتحوَّل من فعلٍ خاص من الإيمان إلى مسألة أمن قومي. تشعر الحكومات بأنها مضطرة إلى إشراك نفسها بشكل مباشر في المناقشات حول طبيعة الإسلام وإلّا فإنها تُخاطر بترك فراغٍ إيديولوجي يملأه المنافسون المحليون. وبعبارة أخرى، فإن الخلافات الداخلية حول دور الإسلام وأهميته في السياسة اليومية تُشكّل كيفية إستخدام الدول للإسلام في الخارج.

إسلام الدولة

بمعنى من المعاني، فإن استخدام القوة الإسلامية الناعمة اليس بالأمر الجديد. منذ ستينات القرن الفائت، إستثمرت المملكة العربية السعودية مليارات الدولارات لتمويل بناء المساجد، ونشر نصوص دينية (غالباً ما كانت مثيرة للجدل)، وإعطاء منح دراسية للدراسة في الجامعات الدينية السعودية. إن تصدير النسخة السعودية المتطرفة من الإسلام كانت مدفوعة بإحساس العائلة المالكة والمؤسسة الدينية بالإلتزام بنشر الإسلام، ولكن ذلك خدم أيضاً غرضاً جيوسياسياً، مما سمح للرياض بتأكيد نفسها والتنافس مع المنافسين الإقليميين، مثل مصر في ظل الرئيس العلماني القومي جمال عبد الناصر أو إيران بعد العام 1979. وقد استخدمت طهران بالمثل العلامة التجارية الإسلامية الشيعية لثورة آية الله الخميني لتصوير نفسها في جميع أنحاء العالم الإسلامي بأنها قوة إسلامية ضد الإمبريالية.
منذ الثورات العربية التي إنطلقت في العام 2011، برزت القوة الإسلامية الناعمة كجزء متزايد الأهمية في الجغرافيا السياسية الجديدة للدين، كما ناقشنا في تقرير حديث. إلى حد أكبر من الماضي، تُحاول الحكومات الإسلامية اليوم صياغة الخطاب الديني والتحكّم في المعرفة الدينية من أجل تحقيق مصالحها الوطنية.
لنأخذ إغتيال الصحافي جمال خاشقجي في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت على أيدي عملاء سعوديين في إسطنبول، الذي وفّر مشهداً غريباً لنظام إسلامي مُتشدّد يقتل كاتباً مُتَّهماً بأنه إسلامي. اليوم، تُعارض السعودية نوعاً مُعَيّناً من الإسلاموية – وبالتحديد “الإخوان المسلمين”. ومع ذلك كانت المملكة، قبل عشرات السنين، سعيدة للغاية بتوفير الملاذ الآمن وفرص العمل لأعضاء جماعة “الإخوان المسلمين”، حيث استعانت بهم كمصادر خارجية لجهازها التبشيري الضخم الذي ينتمي إلى جماعات تابعة للحركة الإسلامية. حصلت شخصيات من الإخوان المنفيين على مناصب في كليات في الجامعات السعودية، وكثيرون منهم إحتلوا مناصب عليا في المنظمات الدينية الدولية التي تموّلها الرياض، مثل رابطة العالم الإسلامي والجمعية العالمية للشباب الإسلامي. لكن بعد ثورات العام 2011، عندما فازت الأحزاب السياسية المرتبطة بالإخوان في الانتخابات في مصر وتونس، أصبحت العائلات المالكة في الخليج تنظر إلى الحركة على أنها تهديد وجودي لبقاء أنظمتها.
تصف مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة الآن جماعة “الإخوان المسلمين” بأنها منظمة إرهابية. وخوفاً من أن يكون مزيج المجموعة من التقوى الدينية والمهارات التنظيمية أداة تسمح لها بجذب وتجنيد شعوبها، فإنها حذّرت من مخاطر الإسلاموية. لكن معاداة الإسلاميين هي على الأرجح مثل الإسلاميين تخلط بين الدين والسياسة – ولكن بطريقة مختلفة.
تحاول الحكومات المناهضة للإخوان بقوة فرض سيطرتها على المؤسسات الدينية وتعزيز ما يُمكن تسميته “إسلام الدولة” – وهو نسخة من الدين الذي هو، قبل أي شيء، خاضع لمصالح الدولة. في مصر، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي جامعة الأزهر إلى تحديث وعصرنة منهجها تجاه المصادر الإسلامية كجزء من “ثورة دينية” أوسع نطاقاً يُمكن أن تُجيب وتواجه معاً الإسلام المعارض ل”الإخوان المسلمين” والإسلام العنيف المتطرف لتنظيمي “داعش” و”القاعدة”. كما تعهد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في العام 2017 بإعادة المملكة العربية السعودية إلى تقليد “الإسلام المعتدل” الذي زعم أنه كان مُنتشراً في المملكة. لقد قام بتقليص نفوذ “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” (الشرطة الدينية) في المملكة، وأزال منها السلطات التي تمنحها القيام بالإعتقالات، وأصدر أحكاماً قاسية ضد شخصيات دينية مستقلة مثل الشيخ سلمان العودة، وهو رجل دين يتمتع بشعبية كبيرة وله صلات مع “الإخوان المسلمين”. في حين أن الملوك السعوديين السابقين وكبار العائلة المالكة قد سمحوا على الأقل بمبدأ خذ وأعطِ مع المؤسسة الدينية في البلاد، فقد أوضح بن سلمان أنه بالنسبة إلى الإسلام المعتدل، لا يتعلق فقط برفض “داعش” بل بالترويج لإحترام السلطات السياسية القائمة والإذعان لها.
كما طوّرت القوّتان الخليجيتان الأخريان، قطر والإمارات العربية المتحدة، مناهج متميزة لدعم وتعزيز الدين في الخارج. لقد وضعت قطر نفسها كراعٍ للإسلام السياسي وبخاصة ل”الإخوان المسلمين”– الذي ولّد استياء في الرياض وأبو ظبي – حيث وفّرت ملاذاً لمُنشقين إسلاميين واستضافت مجموعة من وسائل الإعلام المؤيدة للإخوان بشكل عام. وفي غضون ذلك، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة بهدوء في العقد الماضي كزعيمة رئيسية لعدد من كبار علماء الصوفية، وقد موّلت مؤتمرات رفيعة المستوى التي جمعت ليس فقط قادة مسلمين من جميع أنحاء إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، بل قادة مسيحيين ويهود من أوروبا والولايات المتحدة أيضاً. أحد المواضيع الرئيسية لهذه المؤتمرات كان التعددية الدينية، لكنها تعددية هادئة لا تتحدّى الدولة.

الإسلام والنظام الليبرالي

بالنسبة إلى الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى، فإن واقع القوة الإسلامية الناعمة يُعقّد محاولات فهم الحلفاء ذات الغالبية المسلمة. يجب أن تُدرك واشنطن أولاً أن التنافس الداخلي حول دور الإسلام والإسلام السياسي المتطرف لا يُمكن احتواؤه ضمن حدود البلد، وأن السياسات الخارجية للأنظمة الإستبدادية الحليفة ليست – ولا يمكن أن تكون – معزولة عن الصراعات الداخلية الإسلامية في الداخل. وهذا يعني أنه حتى بالنسبة إلى المسؤولين الأميركيين الذين لا يهتمون كثيراً بحقوق الإنسان، لا تزال هناك أسباب مهمة – على طول خطوط “المصالح الوطنية” – لإيلاء إهتمام وثيق لكيفية قمع الأنظمة لخصومها المحليين. إن انتهاكات حقوق الإنسان لا يُمكن وضعها بين قوسين كمسألة للمثاليين السذّج الذين لا يفقهون شيئاً عن الوقائع والحقائق الصعبة للسياسة الواقعية.
وقد إلتقطت إدارات أميركية مختلفة، جمهوريّة وديموقراطيّة على حدّ سواء، بعض العادات السيئة عندما يتعلق الأمر باحتضان جهات دينية يروّج لها حلفاؤها العرب كحلول للتطرّف الديني. مثل الإمارات العربية المتحدة، فقد وضع الأردن والمغرب أنفسهما أيضاً كأبطال ل”الإسلام المعتدل”، وهو ترياق مفترض للتطرف الديني. وقد أشادت الحكومات الغربية برعاية أبو ظبي للقمة بين الأديان وإنشاء مراكز تدريب للقادة الدينيين – حتى مع عدم معرفة بعد فعالية هذه المبادرات. على كل حال، فإن المؤسسات الدينية المعنية غالباً ما يُنظر إليها من قبل السكان في المنطقة كأبواق للحكومات ذاتها التي تحتقرها. هذه اصوات بالكاد يُمكن الوثوق بها.
لكن كسب القلوب والعقول ليس بالضرورة هو الهدف. إن استخدام القوة الإسلامية الناعمة يهدف إلى خدمة الحكومات أكثر مما يخدم الجماهير الإسلامية. تقريباً من دون إستثناء اليوم، إحتضن أولئك الذين يتنافسون على الهيمنة في الشرق الأوسط أشكالاً مختلفة من التوعية الدينية في استراتيجياتهم الإقليمية. على سبيل المثال، أدى ذعر المملكة العربية السعودية من التوسّع الإيراني في المنطقة إلى تشجيع الرياض، أو على الأقل التغاضي عن، المشاعر المعادية للشيعة – والعنيفة في بعض الأحيان – من الدعاة ورجال الدين السعوديين والآخرين المرتبطين بالسعودية، وبخاصة في دول، مثل لبنان والعراق، حيث تتمتع طهران بحضور قوي. من جهة، ينخرط رجال الدين هؤلاء في إدانة كاملة لما يعتبرونه حقاً بدعة؛ ومن جهة أخرى، فإن تعبيراتهم عن الإيمان تخدم أجندة الدولة السعودية التي تنظر إلى المذهب الشيعي على أنه تجسيد لطهران.
وقد سعت إيران، من جانبها، إلى إثارة التوترات الطائفية في دول مثل البحرين والعراق ولبنان، حيث يعاني السكان الشيعة من التمييز والحرمان من الحقوق. لا تستطيع إيران تحمّل الإنخراط في التحريض المباشر ضد السنّة، والذي من شأنه أن يُنفّر الغالبية العظمى من المسلمين. بدلاً من ذلك، تُصوّر وتُبرز طهران رموز الإضطهاد الشيعي من التاريخ الإسلامي في محاولة لمساواة الأنظمة السنية الحالية مع مرتكبي الجرائم ضد الشيعة في الماضي. في كلٍّ من هذه الأمثلة، تتشابك الجغرافيا السياسية والإسلام بشكل لا ينفصم، لدرجة أنه من الصعب معرفة أين تنتهي الأولى ويبدأ الأخير.
على الرغم من أن الإسلام كان دائماً حاضراً في السياسة في المنطقة، إلا أن أهميته قد نمت في السنوات الأخيرة – ليس فقط بسبب تشنّجات “الربيع العربي” بل أيضاً جرّاء القرارات التي اتُّخِذت في واشنطن. حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مثل سلفه، باراك أوباما، الإنفصال عن التهديدات اليومية لسياسة الشرق الأوسط وتسليم المزيد من المسؤولية إلى الحلفاء العرب. وقد شجّع هذا الأمر الحلفاء – وبخاصة المملكة العربية السعودية – على تبني سياسات خارجية أكثر عدوانية، والتي تتطلب بدورها لغة إيديولوجية لاستدامة هذا العدوان. القوة الإسلامية الناعمة، سواء في شكلٍ مناهض للشيعة أو “الإسلام المعتدل”، توفر ذلك بالضبط.
وعلى نطاق أوسع، يحدث تحوّل في جميع أنحاء العالم مع تزايد الشكوك حول مستقبل الليبرالية و”النظام الليبرالي العالمي” الذي تقوده الولايات المتحدة. ومع تضاؤل الإجماع الدولي حول الليبرالية، هناك المزيد من الحيّز المتاح للقتال الإيديولوجي. إذا استمرت واشنطن في الانسحاب من دورها في تعزيز نظام عالمي واضح قابل للتنبؤ، فإن التنافس حول الإسلام – الذي يُحدده، والذي يتحدث عنه، والذي يُمكن أن يحشده من أجل أهدافه الخاصة – يبدو من المرجح أن يتكثّف.

• بيتر ماندافيل هو أستاذ الشؤون الدولية في كلية العلوم السياسية والحكومية في جامعة جورج ماسون وزميل كبير غير مقيم في معهد بروكينغز. وشادي حامد هو زميل كبير في مشروع العلاقات الأميركية مع العالم الإسلامي في معهد بروكينغز. وهما مؤلفا كتاب “الإسلام كقانون أساسي: كيف تستخدم الحكومات الدين في السياسة الخارجية”.
• كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى