صَفقَةٌ ماليّةٌ جديدة لفلسطين

رجا الخالدي*

مع وقف إطلاق النار الذي أنهى المواجهات الإسرائيلية – الفلسطينية الأخيرة في غزة والضفة الغربية، فإن السؤال المطروح الآن هو كيف يُمكن تأمين مسارٍ موثوقٍ نحو السلام. للحصول على أي أملٍ في النجاح، سوف يحتاج الاقتصاد الفلسطيني إلى الإنعاش والتعزيز، وسيتعيّن على الأطراف الدولية المَعنية الاستمرار في الإنخراط والمشاركة. لحسن الحظ، حقّقت إدارة الاقتصاد الفلسطيني أكثر بكثير مما أقرّه العالم، وهي على مستوى مهمة إعادة الإعمار والتنمية المطلوبة اليوم.

تُعَدُّ موازنة القطاع العام القابلة للتطبيق والنمو واحدة من أكثر الإنجازات الاقتصادية ديمومةً خلال 25 عاماً من جهود بناء الدولة الفلسطينية. لكن هذا النجاح تُهدّده حالياً أزمة اجتماعية واقتصادية مُزمِنة، تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-19، والشلل السياسي الطويل المدى، والتصاعد الأخير في التوترات الإسرائيلية – الفلسطينية. مع استعداد إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، على ما يبدو، للاستفادة من توازنٍ سياسيٍّ جديدٍ ناشئٍ بين الأفرقاء وفي المنطقة، يجب على المؤسسات المالية المُتعدِّدة الأطراف -وصندوق النقد الدولي على وجه الخصوص- القيام بدورها لمساعدة فلسطين.

سمحت المالية العامة القوية للسلطة الوطنية الفلسطينية تقديم مجموعةٍ من الخدماتِ اللازمة للحفاظ على الأمن العام، والتماسك الاجتماعي، واقتصادِ سوقٍ فاعل، إذا تعثّر، وسط اقتصادٍ كلّي مُتقلّب ومناخٍ سياسي تحت الاحتلال. على الرغم من مساحة السياسة المحدودة، حافظت الحَوكَمة المالية السليمة للسلطة الوطنية الفلسطينية على الطلب الكلّي كما على تشغيل الخدمات الأساسية حتى في أثناء الوباء وما نتج عنه من تداعياتٍ إجتماعية واقتصادية، علماً أن موازنة السلطة الوطنية الفلسطينية ما زالت تُخصّص حوالي 30 في المئة من نفقاتها لقطاع غزة، على الرغم من أنها لا تحكمه.

رُغمَ أن الجهات المانحة والمؤسسات الدولية قد غادرت فلسطين وتركتها وحيدةً تُدافع عن نفسها في علاقاتها المالية مع إسرائيل، إلّا أن السلطة الوطنية الفلسطينية صمدت أمام العقوبات المُتكرّرة، وآخرها في العام 2019 ومرة ​​أخرى في العام 2020، والتي فرضتها السلطات الإسرائيلية من خلال سيطرتها على إيرادات الجمارك والضرائب التجارية الفلسطينية. ولكن هذه المرة، مع تزايد الضغط على نظام الرعاية الصحية غير المستقر في فلسطين وقطاع المؤسسات المُنهَك، ليس هناك حلٌّ سهلٌ يلوح في الأفق.

منذ إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994، أصبحت المؤسسات المالية الدولية راسخة بعمق في فلسطين. قدم البنك الدولي تمويلاً تنموياً، وصندوق النقد الدولي مساعدات تقنية، بينما منحت مؤسسة التمويل الدولية (ذراع البنك الدولي لإقراض القطاع الخاص) ضمانات قروض لتطوير الأعمال. في علاقاتها مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، تعمل فلسطين، لجميع المقاصد والأغراض، كحكومةٍ وطنية وتُطالب بتسمية “دولة تحت الاحتلال”. ولكن، بعد 27 عاماً، لا يزال وضعها مع المؤسسات الاقتصادية مُتعدّدة الأطراف الرائدة دون المستوى.

على عكس الحكومات الأخرى، ليس للسلطة الوطنية الفلسطينية أيّ تمثيلٍ في الهيئات الحاكمة للمؤسسات متعددة الأطراف، على الرغم من مشاركتها الوثيقة في قضايا التنمية الاقتصادية الأكثر أهمية في فلسطين. ولا يمكنها الوصول إلى تمويل من صندوق النقد الدولي للاقتصادات المتعثرة، على الرغم من أن فلسطين بالتأكيد ستكون مؤهلة لذلك.

لسوء الحظ، فإن تقارير صندوق النقد الدولي إلى مجتمع المانحين في السنوات الأخيرة تتكيّف بشكلٍ مُتزايد مع المنظور الأمني لإسرائيل عند مناقشة الاقتصاد الفلسطيني والمالية العامة. يتجنّب الصندوق بانتظام التأثير الهيكلي للعقبات التي تفرضها إسرائيل على النمو الاقتصادي لفلسطين والسيطرة الإسرائيلية على تجارتها وحدودها ومواردها الطبيعية. لكي نكون صريحين، تتجاهل تقارير صندوق النقد الدولي حقائق الاستعمار والاحتلال العسكري الإسرائيليين.

يجب أن ينتهي الإختلال والتفاوت في علاقات صندوق النقد الدولي مع فلسطين. لقد ناشدت السلطة الوطنية الفلسطينية مراراً وتكراراً المديرين الإداريين المتعاقبين للصندوق لإجراء محادثاتٍ حول كيفية حصول فلسطين على وضعها المستقل الشرعي في المؤسسة، بدلاً من التعامل معها على أنها ملحقٌ بالمكتب الإسرائيلي. تُعطي الترتيبات الحالية لسلطة الاحتلال مساحةً غير مسبوقة للتدخّل في تفاصيل المالية العامة الفلسطينية وفرض إملاءاتٍ إستعمارية.

صحيحٌ أن صندوق النقد الدولي قدّم مساعدة تقنية قيّمة ساعدت على بناء النظام المالي الفلسطيني – جزءٌ من مؤسسات الدولة الوليدة التي شهد الصندوق والبنك الدولي والأمم المتحدة قبل عشر سنين على أنها “فوق عتبة دولة فاعلة”. ولكن على الرغم من أن ما يقرب من 140 دولة اعترفت منذ ذلك الحين بالدولة الفلسطينية، إلّا أن مؤسسات معاهدة “بريتون وودز” لا تزال عالقة في العقلية الاستعمارية.

لقد أصبح من الممكن الآن لصندوق النقد الدولي أن يفعل الشيء الصحيح، لأن إدارة بايدن تبدو مُستعدّة لاستثمارِ رأسِ مالٍ سياسي ومساعدات أميركية لإحياء جهود موثوقة لتحقيق حلّ الدولتين. إذا كان هناك أي شيء، فإن السياسات الاقتصادية المحلية ذات الميول التقدّمية لبايدن تشير إلى الاستعداد للإنفصال عن عقيدةٍ فاشلة. إن قبول فلسطين كعضو في صندوق النقد الدولي لن يضرّ بالعمليات الديبلوماسية في نهاية المطاف، ولا يعني الاعتراف بـ “دولة فلسطين” المُتنازَع عليها، لأن المادة الثانية من اتفاقية الصندوق تنص على أن العضوية يجب أن تكون مفتوحة إلى “بلدان”، وهي مكانة لا يمكن لأحد أن ينكرها على فلسطين.

إن تصحيح وضع فلسطين في صندوق النقد الدولي من شأنه أن يبعث برسالة ثقة من المجتمع الدولي في منعطف حاسم بالنسبة إلى المنطقة. إن حلَّ الدولتين مُعلقٌ منذ سنوات، والاستدامة المالية للسلطة الفلسطينية مُعرَّضة للخطر بسبب صدمة كوفيد -19، التي كلفت فلسطين 12 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي في العام 2020. ولكن، نظراً إلى الظروف السياسية الواعدة، فإن المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، التي أظهرت قيادة حكيمة طوال أزمة فيروس كورونا، تتمتع بفرصة مثالية لتغيير ديناميكيات علاقات فلسطين مع الصندوق.

إذا ظلّت فكرة الوضع الرسمي لفلسطين في صندوق النقد الدولي رهينة لضغط اللوبي الإسرائيلي، يمكن للدول العربية أو الدول الصديقة الأخرى تخصيص جزء من حقوق السحب الخاصة (الأصول الاحتياطية لصندوق النقد الدولي) حتى يتمكّن الصندوق من تزويد السلطة الوطنية الفلسطينية بالنوع عينه من التمويل الطارئ إلى البلدان النامية الأخرى التي تكافح مع تداعيات الوباء. مثل هذه الخطوة ستسمح لفلسطين الاستفادة من المساعدات المالية الدولية في الأزمات غير العادية مثل الأزمة الحالية، من دون تدخّل إسرائيل.

اليوم، يمكن للولايات المتحدة والمجتمع الدولي تحسين آفاق الاقتصاد الفلسطيني والسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال تعزيز مكانة فلسطين المالية. وبالتالي، يجب على صندوق النقد الدولي أن يقرّ بالتقدم المالي الذي أحرزته فلسطين على مدى ربع القرن الفائت، وأن يعرض عليها صفقة مالية جديدة مع ترقية وضعها ومكانتها في الصندوق.

  • رجا الخالدي هو المدير العام لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى