حانَ الوَقتُ للتَخَلّي عن هَيمَنَة الدولار؟!

تدفع الولايات المتحدة ثمناً باهظاً لإصدار عملة الاحتياط في العالم، وهو أمرٌ يقف في وجه نموها الإقتصادي ويُهدّد بتعميق عدم المساواة وكذلك الإستقطاب السياسي في البلاد. فهل حان الوقت للتخلّي عن هيمنة الدولار؟

 

فاليري جيسكار ديستان: هيمنة الدولار الأميركي منحت أميركا “امتيازاً مُفرِطاً” للإقتراض بثمنٍ بَخس، والعيش خارج حدود إمكاناتها

بقلم سايمون تيلفورد وهانس كوندناني*

في ستينات القرن الفائت، إشتكى وزير المالية الفرنسي آنذاك، فاليري جيسكار ديستان، من أن هيمنة الدولار الأميركي منحت الولايات المتحدة “امتيازاً مُفرِطاً” للإقتراض بثمنٍ بَخس أقل من بقية العالم، والعيش خارج حدود إمكاناتها. غالباً ما ردّد حلفاء أميركا وأعداؤها الكلام عينه منذ ذلك الحين. لكن الإمتياز المُفرط ينطوي أيضاً على أعباءٍ باهظة تُثقل كاهل القدرة التنافسية التجارية والتوظيف في الولايات المتحدة، والتي من المُرجّح أن تزداد ثقلاً وزعزعةً للإستقرار مع تقلّص حصة واشنطن في الإقتصاد العالمي. إن فوائد أسبقية وصدارة الدولار تعود بشكلٍ أساس إلى المؤسسات المالية والشركات الكبرى، ولكن التكاليف فيتحمّلها العمال والموظفون بشكل عام. لهذا السبب، تُهدّد الهيمنة المستمرة للدولار بتعميق عدم المساواة وكذلك الإستقطاب السياسي في الولايات المتحدة.

هيمنة الدولار ليست شيئاً يُرضي الجميع. لسنوات، حذّر مُحلّلون كثيرون من أن الصين وقوى أخرى قد تُقرّر التخلّي عن الدولار وتنويع احتياطاتها من العملات لأسبابٍ إقتصادية أو استراتيجية. حتى الآن، لا يوجد سببٌ وجيه للإعتقاد بأن الطلب العالمي على الدولار آخذٌ في النضوب والإنخفاض. ولكن هناك طريقةً أخرى يُمكن للولايات المتحدة أن تَفقُدَ بها مكانتها كمُصدِّرة لعملة الإحتياط المُهيمنة في العالم: يُمكن أن تتخلّى طوعياً عن هيمنة الدولار لأن التكاليف الإقتصادية والسياسية المحلية قد زادت بشكل كبير.

لقد تخلّت أميركا أصلاً عن التزاماتٍ مُتعدّدة الأطراف وأمنية خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب – ما دفع بخبراءِ العلاقات الدولية إلى مناقشة ما إذا كانت البلاد تتخلّى عن الهيمنة بمعنى استراتيجي أوسع. يُمكن للولايات المتحدة أن تتخلّى عن التزامها بهيمنة الدولار بطريقةٍ مُماثلة: حتى لو كان جزءٌ كبير من العالم يريدُ أن تُحافظ واشنطن على دور الدولار كعملة احتياطية – مثلما يريد معظم العالم أن تستمر الولايات المتحدة في توفير الأمن – يُمكن لأميركا أن تُقرّر أنها لم تعد قادرة على تحمل ذلك. والواقع أنها فكرة لم تلقَ سوى القليل من النقاش الجدي في دوائر السياسة، لكنها يُمكن أن تفيد الولايات المتحدة، وفي نهاية المطاف بقية العالم.

تكلفة هيمنة الدولار

هيمنة الدولار تنبع من الطلب عليه في جميع أنحاء العالم. يتدفق رأس المال الأجنبي إلى الولايات المتحدة لأنها مكانٌ آمن لوضع الأموال ولأن هناك القليل من البدائل الأخرى. هذه التدفّقات الرأسمالية تُقزِّم تلك الأموال التي تحتاجُها الأسواق لتمويل التجارة مرات عديدة، وتتسبّب بعجزٍ كبير في الحساب الجاري. وبعبارة أخرى، فإن أميركا لا تعيش كثيراً بما يتجاوز إمكاناتها فيما هي تستوعب رأس المال الزائد في العالم.

ولهيمنة الدولار أيضاً عواقب توزيعية محلية، أي أنها تخلق رابحين وخاسرين داخل الولايات المتحدة. الفائزون الرئيسيون هم البنوك التي تعمل كوسيط ومُتلقّية لتدفقات رأس المال الداخلة، والتي تُمارس نفوذاً مُفرطاً على السياسة الإقتصادية الأميركية. الخاسرون هم المُصنّعون والعمال الذين يستخدمونهم. الطلب على الدولار يزيد من قيمته، ما يجعل الصادرات الأميركية أكثر تكلفة وبالتالي يحدّ من الطلب عليها في الخارج، ما يؤدي إلى خسائر في الأرباح وفي الوظائف في التصنيع.

وقد تحملت الولايات الأميركية المُتأرجحة التكاليف بشكل غير متناسب في مناطق مثل “حزام الصدأ” (مصطلحٌ غير رسمي لمنطقة في الولايات المتحدة تشهد تدهوراً صناعياً منذ العام 1980) – وهو ما أدّى بدوره إلى تعميق الإنقسامات الإجتماعية والإقتصادية وغذّى الإستقطاب السياسي. لقد تمّ نقل وتحويل وظائف التصنيع التي كانت ذات يوم مركزية لاقتصادات هذه المناطق إلى الخارج، الأمر الذي ترك فقراً واستياءً في أعقاب ذلك. ليس من المفاجئ أن العديد من الولايات الأكثر تضرّراً صوّتت لصالح ترامب في العام 2016.

من المرجح أن تزداد التكاليف المحلية لاستيعاب التدفقات الرأسمالية الكبيرة وتُصبح أكثر زعزعة للإستقرار في الولايات المتحدة في المستقبل. مع استمرار نمو الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى واستمرار تقلّص شريحة أميركا في الإقتصاد العالمي، ستنمو تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة بشكل كبير بالنسبة إلى حجم الإقتصاد الأميركي. سيؤدي ذلك إلى تضخيم العواقب التوزيعية لهيمنة الدولار، مما يفيد المزيد من الوسطاء الماليين الأميركيين على حساب القاعدة الصناعية للبلاد. من المرجح أيضاً أن يجعل السياسة الأميركية أكثر تعقيداً ومُفعمة بالمخاطر.

ونظراً إلى هذه الضغوط الإقتصادية والسياسية المتزايدة، سيُصبح من الصعب بشكل متزايد على الولايات المتحدة تحقيق نمو أكثر توازناً وعدالة وإنصافاً مع الحفاظ على أن تكون الوجهة المفضلة لرأس المال الزائد في العالم، مع المبالغة في قيمة العملة وما يعني ذلك للتصنيع. في مرحلة ما، قد لا يكون أمام الولايات المتحدة سوى بديل ضئيل وهو الحد من واردات رأس المال لصالح الإقتصاد الأوسع – حتى إذا كان القيام بذلك يعني التخلّي طوعاً عن دور الدولار كعملة احتياطية مُهيمنة في العالم.

السابقة البريطانية

لن تكون الولايات المتحدة أول دولة تتنازل عن الهيمنة النقدية. من منتصف القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، كانت المملكة المتحدة هي الدائن المُهيمن في العالم، وكان الجنيه الإسترليني الوسيلة السائدة لتمويل التجارة الدولية. خلال هذه الفترة، إستندت قيمة النقود على ما تساويه بالنسبة إلى الذهب بموجب ما يُسمى معيار الذهب. إحتفظت المملكة المتحدة بأكبر احتياطي من الذهب في العالم، واحتفظت دولٌ أخرى باحتياطاتها من الذهب أو الجنيه الإسترليني.

في النصف الأول من القرن العشرين، إنخفض الإقتصاد البريطاني، وأصبحت صادراته أقل تنافسية. ولكن لأن المملكة المتحدة إلتزمت بمعيار الذهب، فإن إدارة عجزٍ تجاري يعني نقل الذهب إلى الخارج، ما قلّل من كمية الأموال المُتداوَلة وأجبر على انخفاض الأسعار المحلية. علّقت المملكة المتحدة المعيار الذهبي خلال الحرب العالمية الأولى، إلى جانب العديد من البلدان الأخرى. ولكن بحلول نهاية الحرب، كانت دولة غارقة في الديون، والولايات المتحدة، التي جمعت احتياطات ضخمة من الذهب، حلّت محلها باعتبارها الدائن الرئيس في العالم.

عادت المملكة المتحدة إلى معيار الذهب في العام 1925، لكنها فعلت ذلك بسعر صرف ما قبل الحرب، مما عنى أن سعر الجنيه الاسترليني كان مُبالغاً فيه بشكل كبير، ومع احتياطاتٍ من الذهب كانت استُنفِدت كثيراً. إستمرت معاناة الصادرات البريطانية، وتضاءلت حيازات الذهب المتبقية في البلاد، مما اضطرها إلى خفض الأجور والأسعار. وتراجعت القدرة التنافسية الصناعية في البلاد، وارتفعت البطالة، مما تسبب في اضطرابات اجتماعية. في العام 1931، تخلت المملكة المتحدة عن المعيار الذهبي للأبد – وهو ما عنى في الواقع التخلّي عن هيمنة الإسترليني.

في العام 1902، وصف جوزيف تشامبرلين، وزير الدولة للمستعمرات آنذاك، المملكة المتحدة بأنها “عملاقٌ مُرهَق”. اليوم، يُناسب هذا المصطلح بشكل جيد الولايات المتحدة التي ترى أن قوتها الاقتصادية تتضاءل بالمقارنة مع القوى الأخرى، وبخاصة الصين. ويناقش المنظرون في العلاقات الدولية ومحللو السياسة الخارجية درجة ومدى تراجع الولايات المتحدة وحتى التوقّعات لعالم ما بعد أميركا.

يزعم البعض أنه في عهد ترامب، تخلّت الولايات المتحدة عن عمد عن مشروع “الهيمنة الليبرالية” – على سبيل المثال، من خلال خلق عدم اليقين بشأن الالتزامات الأمنية الأميركية. ويصف آخرون تراجع أميركا عن الهيمنة كجزء من تقليصٍ هيكلي طويل الأجل. في كلتا الحالتين، يُمكن التصور بأن الولايات المتحدة ستتبع السابقة البريطانية وتتخلّى عن الهيمنة النقدية طواعية. متى وكيف يمكن أن يحدث هذا الأمر لم تتم مناقشته إلى الآن إلّا قليلاً.

قضيةُ الضرائب على رأسمالٍ مُضارِب

في الوقت الحالي، يبدو الدولار أكثر هيمنة من أي وقت مضى. حتى في الوقت الذي انغمس الإقتصاد الأميركي في الركود وخسر ملايين الوظائف، إزداد الطلب على الدولارات – تماماً كما حدث بعد الأزمة المالية في العام 2008. باع الأجانب أعداداً كبيرة من سندات الخزانة الأميركية في آذار (مارس)، لكنهم استبدلوها بالدولار الأميركي. ضخ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي تريليونات الدولارات في الإقتصاد العالمي من أجل منع الأسواق المالية الدولية من الإنهيار، وتوسيع نظام خطوط التبادل مع البنوك المركزية الأخرى الذي استخدمه في العام 2008. حتى مع سوء إدارة ترامب للوباء الذي عزّز وجهة النظر أن الولايات المتحدة قوة متدهورة، فقد أكدت تصرفات مجلس الإحتياطي الفيدرالي والمستثمرين في جميع أنحاء العالم على مركزية الدولار في الإقتصاد العالمي.

لكن هذا لا ينبغي أن يُطمئن الولايات المتحدة. سيستمر تدفق رأس المال في إلحاق الضرر بالمُصنّعين الأميركيين، وسيؤدي الإنكماش الناجم عن الوباء إلى تفاقم الألم الذي يشعر به العمال. من أجل التخفيف من الضغوط الإقتصادية والسياسية المُتزايدة في مناطق مثل “حزام الصدأ”، يجب على الولايات المتحدة النظر في اتخاذ خطوات للحدّ من واردات رأس المال. قد يكون أحد الخيارات هو توفير عدد أقل من الدولارات للإقتصاد العالمي، مما يؤدي إلى رفع قيمة العملة إلى النقطة التي يتراجع فيها الأجانب عن شرائها. ومع ذلك، فإن القيام بذلك سيجعل التجارة الأميركية أقل تنافسية، ويُخفّض التضخم المُنخفض للغاية أصلاً.

وبدلاً من ذلك، يُمكن للولايات المتحدة مواجهة خدعةَ تلك القوى، بما فيها الصين والإتحاد الأوروبي، التي دعت إلى تقلّص دور عالمي للدولار. لا يوجد خليفة واضح للولايات المتحدة بصفتها ممول العملة الإحتياطية المُهيمنة في العالم. إن السماح لرأس المال بالتدفق بحرية داخل وخارج الصين، على سبيل المثال، يتطلّب إعادة هيكلة أساسية – وصعبة سياسياً – لاقتصاد ذلك البلد. ولا يُمكن لمنطقة اليورو أن تتولى زمام الأمور طالما أنها تعتمد على النمو القائم على التصدير والتصدير المقابل لرأس المال. لكن غياب خليفة واضح لا يجب أن يمنع الولايات المتحدة بالضرورة من التخلّي عن هيمنة الدولار.

يُمكن للولايات المتحدة أن تفرضَ رسوماً أو ضريبة كعقوبات على الإستثمارات الأجنبية قصيرة المدى والمُضارِبة، لكنها تعفي الإستثمارات طويلة الأجل. مثل هذه السياسة ستُعالج أصل الإختلالات التجارية من طريق الحد من تدفقات رأس المال (تصطدم الحواجز التجارية بالأعراض بدلاً من السبب). كما أنه سيخفف من ردة الفعل الحالية ضد التجارة الحرة ويُقلل من الأرباح غير المُنتجة اقتصادياً للمؤسسات المالية.

في سيناريو متفائل، ستوافق المحاور الإقتصادية الثلاثة في العالم – الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – على إنشاء سلة عملات على غرار حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي، على أن يُعطى صندوق النقد الدولي السلطة لتنظيمها أو يتم إنشاء مؤسسة نقدية دولية جديدة للقيام بذلك. النتيجة المُتشائمة ولكن الأكثر ترجيحاً هي أن التوترات – بخاصة بين الصين والولايات المتحدة – ستجعل التعاون مستحيلاً وتزيد من احتمال الصراع بينهما حول القضايا الإقتصادية.

حتى لو كان من المستحيل إيجاد حلّ تعاوني، فقد يكون من المنطقي للولايات المتحدة التخلّي عن هيمنة الدولار من جانب واحد. سيؤدي ذلك إلى إجبار الصين ومنطقة اليورو على نشر مدّخراتهما الزائدة في الداخل، الأمر الذي يتطلب منهما إجراء تعديلات كبيرة على نماذجهما الإقتصادية حتى يُنتجا نمواً أكثر توازناً وإنصافاً. كما سيحدّ من الأرباح المُفرطة للوسطاء الماليين الأميركيين ويُفيد العمال الأميركيين من خلال تخفيض قيمة الدولار وجعل الصادرات الأميركية أكثر تنافسية. باختصار، قد يؤدي التخلي عن هيمنة الدولار إلى فتح الطريق أمام اقتصاد أميركي، واقتصاد عالمي، أكثر استقراراً وعدالة.

  • سيمون تيلفورد هو خبير إقتصادي في “منتدى الإقتصاد الجديد” (Forum for a New Economy). يُمكن متابعته على تويتر: @SimonTilford. وهانس كوندناني هو باحث كبير في مركز “تشاتام هاوس” (Chatham House) في لندن. يُمكن متابعته على تويتر: @hanskundnani
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى