الوامضون في سماء كابية

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

ذات تحدّ، جلس الكاتب والروائي الأميركي إرنست همنغواي مع رفاق الأدب على طاولة الود، فأسرّ لهم برغبته في كتابة قصة لا تتجاوز ست كلمات، فضحك جلساؤه ساخرين من شطحته المجنونة. فما كان منه إلا أن أخرج عشرة دولارات من جيبه، وطالبهم جميعا بإخراج ورقات من الفئة نفسها ووضعها على الطاولة. كان رفاق الأدب يعلمون قدر الأديب، لكنهم كانوا على ثقة من أن أوراقه النقدية ستُوَزَّع عليهم بالتساوي بعض لحظات، ولهذا لم يترددوا في الإستجابة لرهانه الخاسر حتماً. أخرج همنغواي من جيبه ورقة وكتب عليها ومضته المُدهشة: “معروضٌ للبيع … حذاء طفل … لم يلبسه”. وتداول الرفاق حروفه واجمين، ليُكرِّر أحدهم تلوَ الآخر: “فعلها بابا”. (هكذا كانوا ينادونه).
همنغواي الذي جعل عجوزه “سنتياغو” يصارع سمكة في مضمار يمتد أربع وستين صفحة من القطع المتوسط على امتداد ثمانين يوماً فوق سواحل كوبا، ينجح أخيراً في اجتياز حواجز الكلمات ليسكب رواية كاملة في كلمات ست يُدهش بها رفاقة. كان الرجل يُدرك أن الثرثرة خلق يليق بالصحافي لا بالأديب، وأن رشّ الأحرف فوق صفيح الأذن الملتهب، لا ينتج إلا نوعاً رديئاً من الكنافة اللغوية غير المُستساغة. صحيح أن قصته القصيرة جداً لم ترشحه لجائزة نوبل ولم تؤهله لنيل جائزة البوليتزر كما فعلت رائعته “العجوز والبحر”، لكنها أثبتت أنه قادر على إرسال صواعقه الأدبية في أي فضاء يشاء، وأنه سيد الإطناب وعمدة الإيجاز في الأدب الأميركي المعاصر وعلى مر العصور.
الأديب الحق قادر على تسور حصون المعنى مهما قلت الكلمات، وعلى إقتناص فرائسه بأقل عدد من الحروف. لكن المُتشبّهين من الصحافيين بالأدباء، تراهم يخوضون كالذين خاضوا، لكنهم لا يبقون ظهراً ولا يقطعون وادياً. وقد أدرك أرباب الكلمة من المفكرين والخطباء العرب هذا المعنى جيداً، فكان أحدهم (سعد زغلول) يكتب لصاحبه (عبد الرحمن فهمي): “معذرة على الإطالة، لأن الوقت لم يُسعفني للإختصار”.
في هذه الأيام النحسات، خرج علينا بعض المُتشبهين بهمنغواي، ممن أرادوا السير على نهجه، لكنهم لم يمتلكوا فرساً كفرسه ولا قلباً كقلبه، فانهالوا على مسامعنا بمطارق عجزهم الأدبي المُدقع، يخلطون الكلمات بدقيق المعنى عسى أن يخرجوا من أفران أوهامهم خبز الأدب، وما هم ببالغيه. فانتشرت في أسواق الأدب الكاسدة موجة “القصة الومضة” كانتشار النار في هشيم المحتظر، ليلمع في سماواتنا الكابية نجوم من طراز ردئ يحرفون الكلم عن مواضعه ليحسبه القارئ أدباً وما هو بأدب، ولكنه تطاولٌ فجٌّ على نوعٍ راقٍ من أنواع القصّ بدأها همنغواي وأنهاها برصاصة اخترقت رأسه ذات يأس.
لا أريد هنا بالطبع أن أدّعي أن الومضة قد ماتت برحيل همنغواي، لكنني أؤكد أن الكثير من الومضات الساذجة قد أحالت ذلك الأدب الراقي إلى سوق كاسدة يبيع فيها أصحاب البضائع الكاسدة حروفهم المسروقة، ثم لا يجد أحدهم غضاضة في تسويق هذا الغث على صفحات الجرائد والمجلات الأدبية على أنه نوعٌ جديد من الأدب، وما هو كذلك، أو على أنه رائد هذا المضمار، وأنّى له ذلك؟

* عبد الرازق أحمد الشاعر أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى