جبران: “لهذه الأَسباب كتبْتُ “يسوع ابن الإِنسان”…” !

الباحث الجبراني الـمُوثِّق فرنشسكو ميديتشي

هنري زغيب*

ما زلنا في زمن الميلاد، و”ابنُ الإِنسان” الذي صلَبَهُ اليهود على جبل الجلجلة، ما زال حديثَ المؤْمنين بأَن ولادتَه في بيت لحم كانت حدَثًا غَـيَّـــرَ وجه التاريخ. وإِذا “النبي” معتبَرٌ رائعةَ جبران خليل جبران الخالدة، فإِن كتابه “يسوع ابن الإِنسان” – وهو أَطول كتبه شكلًا ومضمونًا – لا يقلّ أَهميةً عن “النبي” من حيث الرؤْيا التي فيه باستنطاقه 79 شخصيةً عاصرَت يسوع في فلسطين وأَعطَت عنه شهاداتٍ، منها الإِيجابيُّ المؤْمن، ومنها السلبيُّ الرافض.

فماذا عن هذا الكتاب؟  ولماذا كتبهُ جبران؟

المترجِم الأَرشمندريت أَنطونيوس بشير

مقابلة نادرة

المعروف عن جبران في نيويورك أَنه نادرًا ما أَعطى مقابلةً صحافية. فهو بقي طول الوقت في محترفه يعمل كاتبًا وراسمًا، ونادرًا ما كان يخرج إِلَّا لضروراتٍ محدودة، فيطوي أَيامًا ولياليَ لا يستقبل إِلَّا في ما ندَر.

لعلَّ الأَكثر دأْبًا على اكتشاف كلِّ جديدٍ في تراث جبران، هو الباحثُ الإِيطالي فرنشسكو ميديتشي Francesco Medici، الذي كم فاجَأَنَا بمكتشفاتٍ مذْهلة مغمورةٍ غيرِ معروفةٍ من سيرة جبران ومسيرته، ها هو يطلع علينا اليوم بمقابلة صحافية نادرة تعود إِلى سنة  1928، سجَّلَتْ فيها صحافيةٌ أَميركيةٌ ظُرُوف جبران الدافعة إِلى وضعه كتابَه “يسوع ابن الإِنسان”. ونشَر فرنشسكو هذه المقابلة في موقع “تراث جبران” الذي يُصدره من سيدني أُستراليا الباحث اللبناني الأُسترالي غْلِن كَلِم Glen Kalem.

الكتاب: “يسوع ابن الإِنسان – أَقواله وأَفعاله كما دوَّنها الذين عرفوه” كتبَهُ جبران بين سنتَي 1926 و1927، وأَصدره ناشرُ كتبِهِ الأَميركيُّ أَلفرد كنوف في خريف 1928. ترجمه الأَرشمندريت أَنطونيوس بشير وأَصدره في القاهرة سنة 1932 (بعد سنة على وفاة جبران).

صفحةٌ بخط جبران من المخطوطة الأَصلية

يسوع زار جبران في الحلم

كانت صورة يسوع، قبلذاك، صدرَت لدى جبران في أَكثر من نص ولوحة. وذاتَ يوم، في رسالة منه سنة 1909 إِلى راعِيَتِهِ ماري هاسكل، ذكَرَ لها أَنه رآه مرتين في الحلم، وينوي أَن يضعَ عن سيرته كتابًا مُغَايرًا. وبالفعل، ذكرَه مرَّتين في كتابه “رمل وزبد” (نيويورك 1926)، الأُولى بعبارته: “مرةً كلَّ مئة سنة، يلتقي يسوع الناصري بيسوع المسيحي في حديقةٍ بين تلال لبنان، وكلَّ مرة يقول يسوع الناصري ليسوع المسيحي: ” أَخشى يا صديقي أَننا لن نبلغ أَبدًا نقطةَ اتفاقٍ معًا”. والمرة الأُخرى: “لأَخينا يسوع ثلاث أَعاجيب لم يدوِّنها الإِنجيل: الأُولى أَنه إِنسانٌ مثلك ومثلي، الثانية أَنْ كان له مزاجٌ ساخر، والثالثة إِدراكُهُ أَنه قاهر مع أَنه مقهور”.

ما رأْيكَ يا ميشا؟

سنة 1926، بعد صدور “رمل وزبد”، فيما كان يتحدَّث مع صديقه ميخائيل نعيمه، قال له: “ما قولُكَ في كتاب عن يسوع؟ يسوعُ يساور أَفكاري من زمان. سئِمتُ الذي يؤْمنون به يا ميشا ويتحدَّثون فيه ويكتبون عنه ويصوِّرونه سيدة جميلة إِنما بـِلِحْية، فيرونه وسيمًا لكنه مسكين وضعيف وفقير ووديع ومتواضع. وسئِمتْ الذين لا يؤْمنون به ويصوِّرُونه مشعوذًا وساحرًا. وسئمتُ العلماء يأْتونكَ بالأَبحاث الطويلة والبراهين العقيمة ليُثْبتوا أَو ليَدحضوا وجوده، فيما هو أَكبر حقيقةٍ وُجدَت في تاريخ البشرية. وسئِمتُ اللاهوتيين يَحوكون له من مماحكاتهم السخيفة أَكفانًا تحجُبُهُ عن الفكر والقلب، فلا هو بشَرٌ مثلكَ فتقتدي به، ولا هو إِلهٌ فتعبده. يسوعِيْ أَنا بشرٌ مثلي ومثلكَ. وبلغَت القِحَةُ بأَحد الكُوَيْتِبِين الأَميركان أَنْ صوَّر يسوع تاجرًا محنَّكًا يرمي بكل تعاليمه إِلى غايةٍ مادية بحتة.  فتأَمَّلء !!! وعندي أَنه كان رجلَ العزم مثلما كان رجل الرأْفة. وأَنه لم يكُن أَبدًا مسكينًا أَو مُتَمَسْكنًا. وأَنا أَكرهَ الـمَسْكَنة وأَرى التواضعَ ظاهرةً من ظواهر الضعف… وإِنني اهتديتُ إِلى قالبٍ يعجبكَ: سأَجعل مُعاصري يسوع يتحدَّثون عنه، كلٌّ حسب منازعه ومداركه. ومن أَحاديثهم تتكوَّن صورةُ يسوع كما أَراه أَنا، وهو قالبٌ يناسب أُسلوبي تمامًا”.  وجاء هذا الحديث حرفيًّا كما رواه ميخائيل نعيمه في كتابه الشهير عن جبران (1934).

من رسوم جبران لوجه يسوع

تركيبة يسوع ابن الإِنسان

نسجَ جبران كتابه في تركيبة بسيطة: شهادات 78 شخصًا عرفوا يسوع (التاسع والسبعون هو “رجل من لبنان في القرن التاسع عشر” وهو جبران ذاتُه)، منهم الحقيقيُّ ومنهم المتخيَّل، منهم المؤْمنُ به ومنهم الجاحدُهُ، ويتحدَّثون عنه وفْقَ تفكيرهم الشخصيّ. كان ذلك جديدًا على مقاربة يسوع، ووضَعَ لكتابه رسمًا عن يسوع، وحين صدر سنة 1928 لاقى إِقبالًا من النقاد يعادلُ ما لاقاه قبلًا كتابُه “النبي”.

بُعَيد صُدُوره صدرَت جريدة “سانت لويس تايمز” (تأَسست سنة 1884 في بلدة سان لويس – ولاية ميزوري الأَميركية) وفي عددها نهار 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1928، مقابلةٌ لمراسلتها مارغريت سْتاتنْلِر بعنوان: “صِيَغٌ غيرُ حقيقية عن يسوع في كتاب جبران”، سردَت فيه الصحافية أَنها قصدَت محترف جبران في نيويورك لتسأَله عن ظروف وضعهِ كتابَه هكذا بهذه الصيغة، وعادت من لقائها ذاك بما تعلَّمَتْهُ منه وكانت تجهَلُه.

بين يسوع ولنكولن

جاء في حواره معها، ما خلاصتُه: “قبل أَن أَقول لكِ لماذا وضعتُ هذا الكتاب، أُريدكِ تتخيلين أَنكِ أَميركية تعيشين في بلاد الشام البعيدة، وتعرفين لغتها العربية. ثم أُريدكِ تتخيَّلين عدَدًا من الكتب وضعها لبنانيون وسوريون وعرب ومصريون وفُرْس عن سيرة أَبرَهام لنكولن. تقرإِين هذه الكتُب، وبرغم إِدراكك أَن مؤَلِّفيها مخْلِصُون، ينتفضُ قلبُكِ: “هذا ليس لنكولن الذي أَعرفه. ليس الأَميركي العظيم. ليس الرجلَ الذي حرَّر شعبًا كاملًا من العبودية. ليس الرجلَ ذا المزاج الساخر اللطيف والصابر. هؤُلاءِ المؤَلِّفون رسموا أَبانا أَبراهام بشكل كاريكاتوري خاطئ: لم يسمعُوا صوته، وتناولوا خطابه (أَلقاه الرئيس الأَميركي أَبرَهام لنكولن نهار 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1863 في مدينة غيتيسبُرغ – بنسيلفانيا بعد أَربعة أَشهُر ونصف الشهر على توحيد الجيش) وفسَّروهُ فجاء تفسيرُهم لا إِهانةَ الرجل الذي أَلقى الخطاب بل لنا جميعًا مَن نعتقد أَن ذاك النصَّ رائعةٌ خالدةٌ من روائع اللغة الإِنكليزية. رسَموه وسيمًا فيما هو رُجوليٌّ وقويٌّ. تصوَّري كلَّ هذا، ثم أَصغي إلى مَن في الشرق الأَقصى يقولون: “لم يوجَد أَحدٌ اسمه أَبرَهام لنكولن” أَو “إِنه مجرد أُسطورة” أَو “إِذا كان وُجِدَ فعلًا فهو ليس إِلَّا رجلَ أَعمالٍ ناجحًا عرف كيف يُسَوِّقُ شخصه” أَو “تحريرُهُ عبيد أَميركا الشمالية دافعُهُ أَنه أَحبَّ امرأَةً خُلاسية” أَو “شغَفُهُ في توحيد الولايات وجهٌ آخَر للطغيان، وإِلَّا فَلِمَ لَم يترُك كلَّ ولايةٍ تستقلُّ وحدها بثرواتها واستقلاها؟”

لن أَرضى بتشويه صورة يسوع

بعد هذه المطالعة خَتَم: “هكذا، أَنا الآتي من بلاد الشام وعشتُ سنواتٍ عدَّةً في أَميركا وأَعرف اثنَتَين أَو ثلاثًا من لغاتٍ غربيَّةٍ  كتب فيها رجالٌ ونساءٌ عن يسوع، جاء يوم صرخ فيه قلبي أَنْ لم أَعُدْ أُطيقُ صبرًا على هؤُلاء الذين، طيلةَ أَجيالٍ متعاقبة، شَوَّهوا صورةَ الرجل العظيم الذي كانت له نعمةٌ إِلهية أَن يولَدَ في بلادي، فشوَّهوا صورتَه النبيلة، وسخَّفوا تعاليمَه، وحوَّلوا أَناشيد الفرح فيها إِلى مَرَاثٍ حزينة وبُكائيَّاتٍ تفَجُّعية. وقام أَحدُهم يقول عن لنكولن تكريمًا إِنه نسخة مصغَّرة عن يسوع، وجعلَ أَعمالَ لنكولن وتأْثيره على صورة أَعمال يسوع وأَقواله. هكذا أَنتم، أَبناء العالَم الغربي، لن ترضَوا بتسخيف تلك النسخة المصغَّرة ممَّن يحبون لنكولن إِنما لم يفهموه، ومَن لِمُجرد اللهو أَو المزاج الفني يَرسمون تلك النسخة المصغرة عملًا فنيًّا لا دينيًّا. ولذا لا إِخالُكُم، عدلًا وإِنصافًا، ترضَونني أَن أَرى يسوع الناصري في صورة مشوَّهة”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى