هل يحقّ للرئيس السيسي نقل سيادة جزيرتي تيران وصنافير من دون إستفتاء شعبي؟

في الشهر الفائت قام العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز بأول زيارة رسمية إلى مصر حيث حفلت بتوقيع أكثر من 17 إتفاقية تعاون في كافة المجالات الإقتصادية والإجتماعية والأمنية، وكان أهمها الإتفاق على نقل السيادة المصرية على جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في البحر الأحمر إلى السعودية، الأمر الذي ولّد أزمة داخلية تهدّد الإستقرار.

الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك سلمان بن عبد العزيز: الزيارة كانت ناجحة ولكن...
الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك سلمان بن عبد العزيز: الزيارة كانت ناجحة ولكن…

بقلم مايكل وحيد حنا*

في 10 نيسان (إبريل) الفائت، أعلنت مصر بأنها سوف تنقل سيادتها على الجزيرتين الصغيرتين تيران وصنافير الواقعتين في البحر الأحمر إلى السيادة السعودية بعد عقود طويلة من النزاع عليهما، الأمر الذي أثار رد فعل غاضباً في جميع أنحاء مصر. وقد حجبت ردود الفعل المحلية الحقائق الإقليمية والمحلية التي كشفتها عملية نقل السيادة: إن المطالبات القانونية السعودية بالجزر ليست غير معقولة أو لا أساس لها من الصحة، وأن النظام المصري هو في حالة غير مستقرة فيما هو يحاول تحقيق التوازن بين المشاعر الداخلية والمصالح الأجنبية. كما لا يقل أهمية أيضاً ما تعني هذه الصفقة لإسرائيل والمملكة العربية السعودية.
في العام 1906، إحتلت مصر، التي كانت تحت الإحتلال البريطاني، الجزيرتين في محاولة لخلق ظروف مواتية على الأرض قبل ترسيم حدودها الشرقية مع الإمبراطورية العثمانية في وقت لاحق من ذلك العام. على الرغم من أن مصر قد حصلت على إستقلالها رسمياً في العام 1922، فإن المملكة المتحدة إحتفظت بحقها في الحفاظ على السيطرة الأمنية على مستعمرتها السابقة، حيث إستخدمتها كقاعدة في أثناء الحرب العالمية الثانية. كما لم تعترف بريطانيا رسمياً بترسيم مصر لحدودها البحرية، التي تضمّنت الجزيرتين. في ظل هذه الظروف، بقي الوضع القانوني لهاتين الجزيرتين غير واضح حتى العام 1949.
مع ذلك، ولّد تسلسل الأحداث في العامين 1949 و1950 مجموعة من السوابق التي عززت المطالبات السعودية بالسيادة على الجزيرتين. في آذار (مارس) 1949، إستولت إسرائيل على “أم الرشراش” (عُرفت في ما بعد بإسم إيلات)، وهي مدينة تقع بين مصر والمملكة العربية السعودية، حيث تواجه الجزيرتين عبر خليج العقبة. وبعد هذه الحادثة، وخوفاً من نوايا إسرائيل، طلبت الرياض من القاهرة بأن تحتل القوات المصرية الجزيرتين، وذلك في محاولة لمنع مرور السفن الإسرائيلية عبر مضيق تيران. في كتابه القيّم، “دول الشرق الأوسط وقانون البحر”، يشير الباحث علي الحكيم إلى أن الإتفاق المصري – السعودي على الجزيرتين قد أُعلِمت به دول أخرى عبر مذكّرة تفصيلية مصرية مكتوبة في العام 1950. ذكرت هذه الوثيقة بأن “الحكومة المصرية تعمل في توافق تام مع الحكومة السعودية التي طلبت منها الإحتلال الفعلي لهاتين الجزيرتين. هذا الإحتلال هو الآن أمر واقع”.
فيما تدهورت العلاقات المصرية – السعودية في عهد جمال عبد الناصر، فقد نشأت النزاعات مرة أخرى حول السيادة على الجزيرتين، مع إصرار المملكة العربية السعودية على أنها المالكة بحق للجزيرتين وعودة مصر إلى مطالبات سابقة بالسيادة. وخلال جلسة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في العام 1954، إدّعت مصر بأن الجزيرتين هما جزء من أراضيها، ولكن الأهم من ذلك، بأنها إلتزمت الصمت في وقت لاحق عندما أكدت المملكة العربية السعودية سيادتها على أراضي الجزيرتين في العام 1957. وهذا النوع من التضارب والتناقض قوّض أسس مطالبة مصر.
بعد حرب الأيام الستة في حزيران (يونيو) 1967، إحتلّت إسرائيل جزيرتي تيران وصنافير، لكنها أعادتهما إلى مصر في العام 1982 كجزء من معاهدة السلام التي وقّعت بين البلدين في العام 1979. وتُحدّد المعاهدة بأن الجزيرتين هما جزء من المنطقة “C” في سيناء، وهذا التصنيف يعني أن القوات المتعددة الجنسيات والمراقبين (قوة حفظ السلام التي تشرف على إتفاق السلام) والشرطة المدنية المصرية يمكنها فقط التمركز هناك. وفقاً لمراسلات رسمية بين وزيري خارجية مصر والسعودية في ذلك الوقت — أحمد عصمت عبد المجيد والأمير سعود الفيصل – طلبت القاهرة من الرياض تأجيل مناقشات ملكية الجزيرتين النهائية إلى ما بعد إنسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المصرية وفقاً لإتفاقية السلام.
وقد طغت على المسائل القانونية والتاريخية لنقل السيادة مجموعة من مشاعر القومية المُفرطة، التي أطلقها إنقلاب عبد الفتاح السيسي في تموز (يوليو) 2013، والإستياء المصري الطويل الأمد من ثروة الخليج. مع ذلك، كان النزاع منذ فترة طويلة نقطة للنقاش والتفاوض بين القاهرة والرياض. على سبيل المثال، إن إعلان القاهرة في تموز (يوليو) 2015، الذي شمل إتفاقية إقتصادية وعسكرية مشتركة لتعزيز العلاقات بين البلدين، أشار إلى أن ترسيم الحدود البحرية هو من أهم مجالات التعاون.
من جهته، إعتبر الشعب أن نقل السيادة كان تنازلاً نتيجة موقف النظام الضعيف وإعتماده الكبير على المملكة العربية السعودية. إن التفاصيل المرئية للصفقة الأخيرة — تزامنت مع إلتزام كبير للعون والمساعدة من الرياض — عزّزت الإعتقاد بأن مصر قد تصرفت مثل الفقير الذي يبحث عن صدقات المملكة. على هذا النحو، فقد حصل التحرك بتكلفة سياسية ضخمة.
الواقع أن عمق الإحباط يستحضر لحظات أخرى من الغضب الشعبي التي تنطوي على تنازلات إقليمية التي حددت ملامح مرحلة ما بعد حسني مبارك المشؤومة في مصر. كانت هناك إتهامات تآمرية ضد الرئيس يومها، محمد مرسي، تدّعي بأنه سيقدّم تنازلات إقليمية للفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء، وإلى قطر في منطقة قناة السويس، وإلى السودان في مثلث حلايب، (قطعة أرض مشتركة متنازع عليها على حدود البلدين). وقد ولّدت هذه الإتهامات غضباً شديداً وكانت فعّالة في تقويض حكم الزعيم المدعوم من “الإخوان المسلمين”. في الواقع، كان هناك مثل هذه الضجة حول هذه المطالبات في العام 2014، وتضمن الدستور الجديد بنداً صريحاً يقضي بأنه “ينبغي إستدعاء الناخبين للإستفتاء على المعاهدات ذات الصلة بالسلام والتحالف، وتلك المتعلقة بحقوق السيادة”.
ولكن بالنسبة إلى نقل السيادة في الجزيرتين، لم تكن هناك مشاورات عامة أو إعداد، ناهيك عن الإستفتاء. وبطبيعة الحال، فقد وفّر الغضب المحلي فتحة جديدة لمنتقدي نظام السيسي، وخصوصاً في وسائل الإعلام الإجتماعية. الإعلامي المعروف باسم يوسف سخر من نقل السيادة بكتابته على “تويتر”: “تعالَ وإقترب يا باشا، الجزيرة بمليار دولار، والهرم بإثنين، بالإضافة إلى تماثيل كهدية”. وجماعة ناشطة معروفة بإسم “حركة شباب 6 أبريل” وصفت القرار بأنه خيانة، و(على ما يبدو من دون سخرية) دعت القوات المسلحة إلى التدخل والدفاع عن الوطن. وقد تقدّم محامون أيضاً بمطالبات قانونية ضد هذا القرار، مشيرين الى بند دستوري ينص على إستشارة الشعب حول مثل هذه الصفقات. وقد تفاقم الغضب من جراء تقارير صحافية تفيد بأن مصر قد أبلغت الولايات المتحدة وإسرائيل حول نقل السيادة قبل الإعلان العام.
ولعلّ ما كان أكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى النظام هو الإنتقاد العلني الذي صدر من مؤيديه من القوميين والوطنيين الأكثر صخباً. على سبيل المثال، تهاني الجبالي، النائبة السابقة لرئيس المحكمة الدستورية العليا والداعمة البارزة للجيش المصري، أعربت عن تشكّكها في نقل السيادة والطريقة التي نُفّذ بها.
إن عدم التشاور العام يشير إلى أن السيسي إما قد فَقَدَ الإتصال بالمشاعر العامة أو أنه إعتقد بأن المشاورات العامة من شأنها أن تكشف عن معارضة كبيرة لنقل السيادة تمنعه من المضي قدماً في الصفقة. في هذه الحالة، قد يكون ببساطة يائساً لتوثيق العلاقات المصرية-السعودية وفي وقت شديد الصعوبة إقتصادياً لمصر. وعلى الرغم من المساعدة المالية الضخمة (إعتباراً من أواخر العام 2015، كانت مصر قد تلقت ما يقدر ب 30 مليار دولار في أشكال مختلفة من المساعدة الاقتصادية من حلفائها الخليجيين) والدعم الديبلوماسي الكبير، فقد كان هناك خلاف مهم بين مصر والسعودية تمثل بخلافات عامة كبيرة حول الأولويات والتوقعات الإقليمية. وقد برزت هذه إلى الواجهة عندما رفضت مصر نشر قوات برية لدعم الحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن. وأيضاً في سوريا، حيث إنحازت مصر أساساً إلى روسيا في دعم الرئيس السوري بشار الأسد، الأمر الذي وضعها مباشرة في خلاف مع المملكة العربية السعودية. وهكذا كان دافع السيسي على الأرجح هو محاولة لملمة الأمور من خلال بادرة حسن نية.
والسؤال الآن بالنسبة إلى نظام السيسي هو إلى أي حد سيكون الإستياء الشعبي متواصلاً وعميقاً. والذي ميّز أحدث موجة من السخط هي أنها لم تُقدِّم فقط فرصة لأشد المعارضين للنظام، ولكنها أثارت أيضاً غضب العديد من حلفائه القوميين. وتجدر الإشارة، بطبيعة الحال، إلى أن هذه النكسة الأخيرة تأتي أيضاً في أعقاب سلسلة من عثرات إقتصادية وأمنية وسياسية أخرى أضرت بالثقة العامة في الحكومة وقدرتها على الحكم.
مع ذلك، فإن إتساع نطاق هذا الغضب من نقل السيادة، للمفارقة، سوف يقوّض فرص هذا الحادث لتحدّي إستقرار النظام بشكل كبير. في مواجهة حقيقة أن أنصار “الإخوان المسلمين” ونشطاء المعارضة سيحاولون الإستفادة من الإستياء الحالي من خلال تعبئة قواعدهم، فإن أنصار النظام من القوميين على الأرجح سوف يخفّفون إنتقاداتهم ويتجنّبون الدعوات للإحتجاج خوفاً من تعزيز خصومهم. لا تزال ديناميات ذات المحصلة صفر من الحياة السياسية المصرية هي السمة المميزة.
من ناحية أخرى، يمكن أن يصل الأمر إلى مجلس النواب، والذي ستكون مهمته مراجعة وتنفيذ إتفاق الحدود البحرية. وهناك دلائل فعلية تشير إلى أن موافقة البرلمان على نقل سيادة الجزيرتين لن تكون سهلة تماماً، مع إعلان بعض البرلمانيين والأحزاب السياسية عن عدم موافقتهم. على الرغم من أن الرفض الصريح يبدو أمراً بعيد الإحتمال، فإن مستوى المقاومة البرلمانية مؤشر مهم إلى المزاج العام ورأي النخبة والدعم للنظام. إذا إختار الجسم التشريعي، الذي غالباً ما يُنظَر إليه على أنه ليس أكثر من مجرد ختم مطاطي للنظام، أن يفرض نفسه على مثل هذه المسألة الحساسة جداً والمثيرة للجدل، فسوف يكون ذلك نكسة كبيرة لنظام السيسي.
حتى الآن، تلاقت المصالح الجماعية بين النخبة والدولة للحد من طبيعة التحديات التي تواجه النظام. هذا الحذر هو نتاج فترة ما بعد مبارك المضطربة في البلاد، وتدهور البيئة الأمنية الإقليمية، والأهم، الشعور بالمسؤولية لمنع أي إنتفاضة أخرى. وكان أهم مصدر لإستقرار النظام بالتالي هو المؤسسة الأمنية، ولا تزال كذلك. الآن، يفيد بعض التقارير بأن البعض داخل المؤسسة الأمنية غاضب حول نقل السيادة، إذ أنه بالنسبة إلى الجيش، فقد إستثمر هذه القضية بفخر وطني وينظر إليها من خلال عدسة حروب مصر مع إسرائيل. ومع ذلك، فإنه لا يزال من غير المرجح أن تقرر المؤسسة الأمنية ككل تدخلاً سياسياً كبيراً آخر، لاسيما وأن القيادة العليا للقوات المسلحة ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالرئيس.
على المستوى الإقليمي، إلتزمت إسرائيل الصمت بشكل خاص حيال نقل السيادة، مما يعكس تطوراً في التفكير الإسرائيلي بالنسبة إلى معاهدة السلام والديناميات الإقليمية. في كلٍّ من عامي 1956 و1967، خلال إندلاع الحرب مع إسرائيل، منعت مصر وصول الإسرائيليين إلى مضيق تيران. منذ ذلك الحين، إعتبرت تل أبيب أن التصدي لخطر الإغلاق في المستقبل واجب إستراتيجي كبير. حتى وقت قريب، كانت إسرائيل أيضاً حذرة جداً من إحتمال تغيير شروط معاهدة السلام، التي منحت إدارة الأمن في الجزيرتين إلى مصر. ومع ذلك، فقد أصبحت أكثر مرونة في السنوات الأخيرة بشأن نشر القوات المصرية في سيناء وراء الحدود والمناطق المحددة من معاهدة السلام. كما أن رد فعلها على هذه الصفقة الجديدة هو دليل آخر على نهج أكثر إسترخاء، ولكن من الملاحظ أيضاً لإشراك المملكة العربية السعودية، التي ليست لها علاقات ديبلوماسية رسمية مع إسرائيل. في تصريحات للصحافة، قال وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون: “توصّلنا الى إتفاق بين االدول الأربع — السعودية ومصر وإسرائيل والولايات المتحدة — لنقل السيادة في الجزيرتين، شرط أن يملأ السعوديون واجبات المصريين في الملحق العسكري لمعاهدة السلام”.
من جهته، أكد وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، على أن المملكة العربية السعودية لن تقيم علاقات مباشرة أو إتصالات مع إسرائيل، ولكنها تحترم “الإتفاقات والإلتزامات المتعلّقة بالجزيرتين والتي وافقت عليها مصر”. مع ذلك، فإن إرتياح اسرائيل بالنسبة إلى الترتيبات يبدو أنه يستند ويرتبط بضمانات خطية من المملكة العربية السعودية بأن نقل السيادة لن يؤثر سلباً في حرية إسرائيل للملاحة في مضيق تيران. هذا المستوى من التفاعل الديبلوماسي غير المباشر يعكس التقارب المتزايد للمصالح بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية في ما يتعلق بالتهديد الإقليمي الذي تشكّله إيران.
ومع ذلك، فإن هذه التحولات لها حدود، وعلى الرغم من التوقعات لتحالفات إقليمية رئيسية لبناء محور ضد إيران، فإن هذا الشكل من أشكال التفاعل العام غير المباشر (في تمييز عن الإتصالات السرية) على الأرجح أن يكون الحد. على الرغم من أن القضية الفلسطينية قد فقدت الكثير من مركزيتها في العالم العربي، فإن عدم وجود حلّ للنزاع سوف يستمر بمنع أي خطوات رسمية أخرى نحو تطبيع إسرائيل في المنطقة.
بإختصار، على الرغم من أن نقل سيادة مصر في تيران وصنافير إلى السعودية، من الناحية القانونية الموضوعية، ليس تنازلاً كبيراً، فإن الخطوة غير المتوقعة كانت لها تداعيات كبيرة على السياسة الداخلية والإقليمية وكشفت الحقائق الكامنة في كلا المجالين.

• مايكل وحيد حنّا زميل أول في “مؤسسة القرن” (Century Foundation) وزميل أول في مركز القانون والأمن في كلية الحقوق في جامعة نيويورك.
• هذا المقال كُتِب بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى