لماذا خَرَجَت السفيرة الفرنسية عن الأعرافِ الديبلوماسية في خطابِ الوداع؟

السفير يوسف صَدقة*

أقامت السفيرة الفرنسية في لبنان، آن غريو، حَفلَ استقبالٍ في قصر الصنوبر، بمناسبة العيد الوطني الفرنسي في 14 تموز (يوليو)، بحضور شخصياتٍ رسمية وأعضاءٍ من المجتمع المدني والجالية الفرنسية في لبنان. وقد ألقت السفيرة خطابًا مُطَوّلًا عرضت فيه العلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا وتطور الاحداث في لبنان منذ تولّيها منصبها في تشرين الأول (أكتوبر) 2020. ونوّهت بالدعم المتواصل الذي قدّمته بلادها والشركات الفرنسية للمجتمع اللبناني. إلّا أنَّ الأسلوبَ الاستعلائي الذي تكلّمت فيه السفيرة أثار ردود فعل سلبية من قبل النخبة السياسية وغالبية الشعب اللبناني. فقد اعتمدت أسلوب التأنيب والتقريع وإعطاء الدروس، وهي لغة غير مألوفة في التخاطب في الأعياد الوطنية للدول. هذا وقد تجلّى أسلوب السفيرة الخارج عن اطار الديبلوماسية الكلاسيكية في العبارات التالية من الخطاب:

أين كنتم لو أنَّ فرنسا لم تحتضن مع شركائها القوى الأمنية …

أين كنتم لو أنَّ فرنسا، لم تحشد جهود المجتمع الدولي ثلاث مرات لتُجنّب لبنان انهيارًا كبيرًا …

أين كنتم لو أن فرنسا لم تهب على وجه السرعة لدعم مدارسكم  كيلا لا تقفل أبوابها…

أين كنتم لو لم تساهم فرنسا في تمويل المستشفيات والمستوصفات …

أين كنتم لو لم تحافظ فرنسا على مساحة الحرية والتعبير والابتكار عبر إطلاق مهرجانات الكتاب والسينما …

أين كنتم لو ان الشركات الفرنسية قلّصت اعمالها وتخلّت عن فرص العمل المحلية…

بعد الخطاب المدوي للسفيرة الفرنسية، انتشر السؤال: هل أنها تخطت التعليمات الواردة إليها من وزارة الخارجية الفرنسية، أم أنها نفّذت تعليمات رؤسائها؟ وسؤالٌ آخر: هل يطبّق السفراء التعليمات الواردة إليهم من حكوماتهم، أم أنهم يُنفّذونها مع إعطاء طابعٍ شخصي أو حماسي في لقاءاتهم الديبلوماسية مع السلطات أو مع السياسيين؟ وقد تبيّنَ أنَّ السفير الإلماني في لبنان أندرياس كيندل ينفذ تعليماته مع زيادة في حماسه الشخصي في موضوع النازحين السوريين.

لقد ترسّخ العرف الديبلوماسي العام في أن يُرسِلَ السفيرُ إلى بلده الأفكار التي سيتضمّنها خطابه في العيد الوطني لبلاده، وليس مضمون الخطاب، إلّا في حالاتٍ نادرة. وغالب الظن أن السفيرة الفرنسية قد دفعها الحماس من جهة والخيبة الكُبرى من الطبقة السياسية اللبنانية من جهة ثانية، إلى رفع الصوت عاليًا، بحيث لم يتناسب خطابها مع الأعراف الديبلوماسية.

ويعود ذلك في تقديرنا، إلى أسبابٍ عدة منها:

  • أنَّ الخطابَ هو خطابُ الوداع، والذي قد لا يترتب عليه تداعيات تتعلّق بموقع السفيرة ما دامت ستنتقل الى منصبها الجديد في وزارة الخارجية الفرنسية.
  • قد تكون السفيرة أرادت توجيهَ رسالةٍ الى الرئيس إيمانويل ماكرون، مفادها أنها ديبلوماسية قوية وجريئة، قادرة على تخطي الديبلوماسية التقليدية، ما يؤهّلها في المستقبل لتسلّم مراكز قيادية في فرنسا.
  • يعكس خطاب السفيرة الفرنسية خيبة أمل من الطبقة السياسية اللبنانية، والتي لم تتجاوب مع المبادرات الفرنسية الآيلة الى دعم لبنان للخروج من أزماته السياسية والاقتصادية، منذ زيارة الرئيس ماكرون لبنان بعد انفجارِ مرفَإِ بيروت.

والواقع أنَّ شرخًا حدث في العلاقات بين فرنسا واللبنانيين بشكلٍ عام والمسيحيين بشكل خاص، ومع البطريركية المارونية، عندما حاولت إدارة ماكرون دعم المُرشح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية والذي تعارضه الأحزاب المسيحية. ويبدو أنَّ مستشاري الرئيس الفرنسي باتريك دوريل وإيمانويل بون ورئيس المخابرات الخارجية بيرنار إيميه قد أوقعوه في هذا المأزق، معوّلين على الخبرة التي اكتسبوها في لبنان خلال خدمتهم فيه. لكنهم لم يدركوا تعقيدات الأزمة اللبنانية الحالية، والمداخلات الداخلية والخارجية في معركة الرئاسة. كما إنهم لم يُقدّروا تغيّر المزاج المسيحي تجاه فرنسا في عهد ماكرون. وقد بات السؤال الذي يساور اللبنانيين عامةً، والمسيحيين خاصة، هل ما زالت فرنسا هي الأم الحنون” للبنان منذ تأسيس لبنان الكبير في العام 1920، أم أنَّ المصالح الاستراتيجية والاقتصادية هي التي باتت تُحدّد السياسة الخارجية الفرنسية في عهد الرئيس ماكرون؟

أما من حيث الشكل فيمكن للرئيس ماكرون أو ممثله جان إيف لودريان، ان يتكلّما بلغةٍ قاسية مع المسؤولين اللبنانيون في إطار العلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا، وقد يترتب عليها تشنّج في الأجواء السياسية بين البلدين حيث أنَّ السياسيين لا يخضعون لاتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية لعام 1961. وبالعودة الى الحرب اللبنانية فإن المبعوث الفرنسي كوف دي مورفيل علّق بعد يأسه من مهمته في لبنان قائلًا: “أطردوا لبنان من شياطينه”.

أما وأنَّ السفيرة التي تخضع لموجبات اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية لعام 1961، فإن خطابها يُعتبَرُ تدخّلًا واسعًا في الشؤون الداخلية للبنان، وإن كانت الطبقة السياسية اللبنانية لم تكن على مستوى التحديات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالبلد.

في المحصلة النهائية، فالسفيرة الفرنسية ليست وحدها مَن يخالف الأعراف الديبلوماسية، فالسفيرة الاميركية دوروثي شيا، كانت وجّهت نقدًا لاذعًا وعلنيًا لأحد السياسيين الذي عاقبته واشنطن بموجب قانون ماغنيتسكي.

كما إنَّ السفير الألماني قد بالغ في تحدّي السلطة اللبنانية في موضوع النازحين السوريين. أما على الصعيد العام، فإنَّ الدولة اللبنانية منذ عقود ما زالت مفتوحة لجميع التدخلات الخارجية من دولٍ عربية وأجنبية، وإن كان هذا التدخّل لا ينعكس بإدلاء السفراء بتصريحاتٍ مدوية أو خارجة عن المألوف، كما السفير السعودي والسفير المصري وغيرهما.

يبقى أنه عندما تعود السلطة إلى لبنان ويعود بلدنا الى الحوكمة ومواجهة الأزمة الاقتصادية والسياسية، فلن يعود أي سفير أو ديبلوماسي يتجرّأ على تحدّي السلطة أو الخروج عن الأعراف الديبلوماسية.

  • السفير يوسف صدقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد كان سابقًا سفيرًا للبنان في قبرص وأوكرانيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى