مُؤتمر روما وتحدِّياتُ الهجرة غير الشرعية
الدكتور ناصيف حتّي*
جاءَ انعقادُ المؤتمر الدولي للتنمية والهجرة، الذي دعت اليه الحكومة الايطالية ، يوم الأحد الفائت للبَحثِ عن “حلولٍ مُشتَرَكة في المتوسّط وأفريقيا” وذلك من خلالِ إطلاقِ “عمليةِ روما” كما جاءَ في البيانِ الصادرِ عن أصحابِ الدعوة لمُعالجة قضية الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط. المؤتمر الذي شاركت فيه المنظّمات والوكالات الدولية والأوروبية المَعنية إلى جانبِ دولِ البحرِ الأبيضِ المتوسّط وعددٍ قليلٍ من دولٍ عربية وأفريقية غير متوسّطية ولكن تُعتَبَرُ أنها مَعنيّةٌ بشكلٍ أساس بهذا الأمر، كَشَفَ عن وجودِ خلافاتٍ بين الدولِ الأوروبية المتوسّطية. الدولُ التي تَعتبِرُ أنَّ هذا الملف يحتلُّ مكانةً كبرى على لائحة أولويّاتها السياسية والأمنية بشكلٍ خاص .فلقد كان الغيابُ الفرنسي والإسباني ساطعًا في هذا المؤتمر بسَبَبِ تراكُمِ الخلافاتِ بين هذه الدول المتوسّطية الأوروبية، وخصوصًا بين كلٍّ من فرنسا وإيطاليا، حولَ تَوزيعِ أعباءِ الهجرة غير الشرعية.
يحظى هذا الملف بأولويّة في السياسة الإيطالية. ويعودُ ذلكَ إلى كون إيطاليا تُعتَبَرُ بمثابة البوابة الرئيسة للهجرة غير الشرعية عبر المتوسط.
جملةٌ من الأسباب جعلت من ملف الهجرة غير الشرعية يحظى بهذه الأولوية الضاغطة، ولو بدرجاتٍ مختلفة عند الدول الأوروبية والمتوسّطية: دول الاستقبال ودول المَمَرّ. الدولُ الأخيرة التي قد تتحوّلُ مع الوقت إلى دول مَقرٍّ أيضًا. من هذه الأسباب: الأوضاعُ الاقتصادية الضاغطة في أوروبا مع انعكاساتها المُتعدّدة من سياسية واقتصادية واجتماعية بعد أزمة جائحة كوفيد-19 وكذلك الحرب في اوكرانيا مع ازديادِ أعباء النزوح القائم والمتوقَّع، إذا ما استمرّت الحرب، من أوكرانيا. تداعياتٌ تحملُ كلّها أيضًا انعكاساتٍ أمنية ومُجتمعية. إنعكاساتٌ تُعزّزُ صعود اليمين المُتطرّف في أوروبا. اليمينُ الذي يقتاتُ سياسيًا على تحميل “الآخر” المُختَلِفِ في العرق أو في الدين أو في اللون كل المشاكل التي تُعاني منها المجتمعات الغربية. من هذه الأسباب أيضًا الدافعة إلى النزوح في الدولِ مَصدَرِ الهجرة، انتشارُ ما يُعرَفُ بالأزمات الطاردة للناس من حروبٍ بأشكالٍ ودرجاتٍ مختلفة، وانعدامِ الاستقرارِ ومعه فقدان الحياة الطبيعية بسببِ أزماتٍ اقتصادية حادة لها انعكاسات كبيرة على مختلف أوجه الحياة. أضف إلى ذلك أزمات المناخ من احتباسٍ حراري وتصحّرٍ وشحٍّ في المياه، وكلُّها عناصرٌ طاردة للناس من مجتمعاتها الأم.
ويرى أكثر من مراقب، أو من مَعني بهذا الملف، أنَّ إيطاليا، وليست وحدها بين الدول الأوروبية، تتّبعُ سياسةً تهدفُ إلى إقامةِ جدارٍ عازلٍ على الشواطىء الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسّط، لمَنعِ عبورِ اللاجئين الآتين بأكثريتهم من دول جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا أو من النقاط الساخنة ولو بدرجاتٍ مختلفة في الشرق الاوسط. سياسةٌ تهدفُ إلى تقديمِ مُساعداتٍ مادية وحوافز مالية لدول شرق وجنوب المتوسط للإسهامِ في تخفيفِ أعباءِ اللجوء مقابل المساعدة على منعِ ما صارَ يُعرَفُ ب”قوارب الموت” من الانطلاق من شواطىء هذه الدول نحو برِّ الأمان الأوروبي. قد يوفّرُ ذلك نوعًا من الحلول المرحلية، نوعٌ من المُسكّنات أو المُهدِّئات المَرحلية، ولكنها تبقى مفتوحةً في الزمان طالما أنَّ المُسبِّبات الرئيسة للهجرة لم يتمّ العمل الجدي على معالجتها. وهذه ليست مسؤولية طرفٍ واحدٍ بل هي مسؤولية جماعية وبحاجة إلى مقاربةٍ شاملة في أبعادها ومُتعدّدة الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية. وقد طَرَحَت “عملية روما”، التي أُطلِقَت من المؤتمر، عناوين عدة للمساعدة على معالجة ما يمكن تسميته بالمُسبِّبات الأساسية للهجرة، بالطبع إلى جانب ما أشرنا إليه من مُسبِّبات نزاعية من حروبٍ وغيرها. وهذه تضمُّ في إطارِ سياسةِ التنمية الشاملة مجالات الزراعة والطاقة والبنى التحتية والتعليم والتدريب المهني والصحة. إعلان مهم بدون شك، لكنه يستدعي توفّر الرؤية الشاملة للتنفيذ وتوفّر الإرادة الحازمة وتوفير الإمكانات. وهذا هو التحدّي الاساسي غداة مؤتمر روما.
نقطةٌ أخيرة تتعلّقُ بخصوصية النزوح أو اللجوء السوري في لبنان وتداعياته المختلفة، والخلافُ في التسمية يعكسُ خلافًا سياسيًا وقانونيًا في تعريف المشكلة/ المأساة وكيفية التعامل معها بنجاحٍ وفعالية. ولا يكفي فقط أن يُعلِنَ لبنان موقفًا مُوَحَّدًا بشأن عودة النازحين، وهو أمرٌ أكثر من ضروري. بل صار المطلوب بلورة استراتيجية عمل وتحرّك يُفتَرَضُ ترجمتها في ديبلوماسيةٍ رسمية وعامة، ومنها الديبلوماسية البرلمانية، ناشطة وفاعلة بُغيةَ إطلاقِ عملية العودة الآمنة والكريمة والتدريجية للنازحين إلى سوريا.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).