الخلاصُ في الخلاصِ من سُلالة بيتان

هنري زغيب*

وسْط كل ما يجري من بُؤْسٍ في الحياة اليومية اللبنانية – بما لا يدانيه بؤْسٌ في أَشَدِّ بلدان العالم فَقْرًا ومَجاعات -، ووسْط تحركات وحركات واعتصامات وإِضرابات وتظاهرات وقطع أَرزاق وطرقات، بين جهات مأْمورة، وَجِهات مأْجورة، وَجِهات مقْهورة، يتوزَّع اللبنانيين طَرفَان: أَوَّلُ متشائمٌ من إِمكان الخلاصِ رازحٌ تحت اليأْس والإِحباط والكُفْر بكلِّ ما وكلِّ من، والآخَرُ متفائلٌ بقُرب الخلاصِ ولو بعد حين. وقد يندرجُ بين الطرفَين طرَفٌ أَوسطُ متشائلٌ مترقِّبٌ يترنَّح بين الْــ”يُـمكن” والــ”لا يُـمكن”، حينًا يمارسُ النَقَّ والشكْوى والتَشَكِّي والتشاكي، وحينًا يلفحُه نسيمُ أَمل فيتَّكِل على الله ويُبَسْمِل ويُـحَمْدِل.

غير أَن المتبصِّرين أَبعدَ من هذا الضباب اليوميِّ الأَسْوَدِ السَميكِ حولنا، يعرفون أَنَّ للثورات خطًّا بيانيًّا يتماوج صعودًا وهبوطًا مع الأَيام والظروف بين انطلاقه ونُضج ثماره. فللتغيـير معايير لا تُؤُتي نتائجَها بين شهر وشهر، ولا بين سنةٍ وأُخرى. لذا، قليلو الصبر وقصيرو النظر وجاهلو قراءَة التاريخ، ينكسِرون على اليأْس من تَبَدُّل الحال حِيال استبداد قراصنة الحُكْم والسياسة جيلًا بعد جيل، فيرضَون ويرتَضُون وينكفئُون عن مواصلة النضال. ومَن يعرفون – مثالًا بين عشراتٍ أُخرى – كيف الثورةُ الفرنسية استمرَّت تردُّداتها سنواتٍ طويلةً حتى أَشرقَت على شعبها شمس الحرية والديمقراطية، يدركون أَنَّ لبنان اليوم يمر في نفَق معْتِمٍ صعْبٍ تتلاطم فيه الأَصوات والمواقف والنزاعات، لكنه نفَق طويلٌ يتخَطَّط فيه مصيرُ لبنانَ الجديدِ العائدِ إِلى مجده السابق.

لذلك، كي يكونَ للشعب مصيرُه المرجُوّ، فلْيدرك أَنَّ ذلك يأْتي من نفَس طويل حتى يتغيَّرَ الحكَّام المتحكِّمون منذ عقودٍ برقاب الشعب، وأَنَّ التغيير يبدأُ من قطع الطريق على عودة هؤُلاء الحُكَّام المتحكِّمين، إِنما قبلذاك فلْيتخلَّصِ الشعبُ من خانعين في صفوفه مستزلمين مستسلمين أَزلامٍ محاسيبَ أَغناميين، قبل أَن يقطع طريق العودة لسياسيٍّ من هنا وحاكمٍ من هناك ووزيرٍ من هنالك ونائب يتحضَّر لإِغراق مناصريه بوعود كذابة كالعادة.

التغيير على مستوى الوطن: يلزَمُه التخلُّص من الخوَنَة في القاعدة ثم في سائر الهرَم. فالبيتانيُّون في لبنان معروفون، واضحون بكل صفاقة ووقاحة، على الشعب أَن يتخلَّص منهم لأَن خيانَتَهم عُظمى، وعقابَ الخيانة العُظمى خَلْعُهم عن كراسيهم الحالية وطردُهم من محاولة العودة إِلى السلطة في لبنان، فَهُم خرَّبوها، وهُم زعزعوها، وهُم هشَّموها، وعلى الشعب أَن يُشعِلَ بهم غضبَه فلا ينقادَ لهم أَيًّا كانوا، ولا يصدِّقَهم مهما قالوا، وأَنْ يتذكَّر خياناتِهم وفشَلَهم في قيادة البلاد، وأَن يعاقبَهم بالطرد خارج الهيكل.

وشعبُ لبنان يعرف، كثيرًا يعرف، جِدًّا يعرف، أَكيدًا يعرف، كم يوضاسًا في السلطة، وكم خائنًا في الدولة من سُلالة بـيتان، وكم بيلاطُسًا في “بيت بو سياسة”، وأَولُ الخلاصِ الخلاصُ منهم، من ثَعْلَباتهم، من سِحْناتهم الـمُقرفة على الشاشات. وشعبُ لبنان يعرف تمامًا أَنَّ في صفوفه رجالًا جُدُدًا أَكاديميين مثقَّفين خبراء مهنيين قادرين أَنْ ينهضوا بلبنان.

فلأَجلهم، هؤُلاء الجُدد، لن نيأَسَ، وسنصْبِر على النفَق المعْتم، لأَنهم آتون، وسوف نضع أَيديَنا بأَيديهم النظيفة، ومعًا سنهُدُّ الحصونَ المكَلَّسَة الفاسدة، حجرًا حجرًا سنهدِمها حجَرًا أَوَّل، ثم حجَرًا ثانيًا، ثم ثالثًا فعاشرًا، حتى تسقطَ جميعُ الحجارة.

ومهما زمَنُ الهدْمِ الـمُرُّ الصعبُ طال، المهم أَن يبدأَ الهدم. وها إِن شعبنا الثائر بَدَأ.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى