يا أَمين… يا أَمين…

هنري زغيب*

تماهلتُ في الكتابة إِليكَ ريثما يغُور الزبد الذي تدفَّقَ عليكَ تهانئَ من كلِّ العالم، مُعظمُه صادق وبعضُه بارد كْليشيهاتيًّا من سياسيين في بلادنا انتبهوا فهرعوا إِلى تهنئتك بكلمات معلوكة مكرَّرة مدَّعين أَنهم يعتزُّون بكَ عَلَمًا عالَميًّا من لبنان.

وأَعرف أَنك تقتبل المهنئين بتواضعك الحـيِــيِّ الـجَم، كما لاحظناه على وجهك الخفِر قبل 10 سنوات في قصر بعبدا نهار السبت 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 يوم وَسَّمَكَ الرئيس اللبناني الوفيّ العماد ميشال سليمان (وسام الأَرز الوطني برتبة الوشاح الأَكبر) وكانت رسالةُ تهنئته إِياك قبل أَيام (الأَربعاء الماضي هذا الأُسبوع) عابقة بالوفاء ذاته والتقدير من أَعلى مسؤُول سياسي لبناني.. وكنا لاحظنا تواضعكَ ذاته قبل 3 سنوات في قصر الإِليزيه نهار السبت 29 شباط/فبراير 2020 يوم وَسَّمَكَ الرئيس الفرنسي بوسام الاستحقاق الوطني من رتبة ضابط أَكبر (ناله مثلك قبل 20 سنة عام 2003 الكاتب النروجي يُون فُوسِّه الحائز أَمس الأَول “نوبل الآداب 2023”).

ونهار ارتقائكَ مقعدَ “الأَمانة العامة الدائمة للأَكاديميا الفرنسية” (الخميس الماضي 28 أَيلول/سبتمبر) لم يفارقك ذاك التواضع، الـجَمُّ حتى الإِرتباك، وأَنتَ تعانقُ مواطنتَكَ اللبنانية/الفرنسية ريما عبدالملك (وزيرة الثقافة في فرنسا) وهي بادرتْكَ لا بالفرنسية بل بــــ”مبروك”، الكلمة اللبنانية الـمُحبَّبة، كما لتكون معانقَتُكُما لبنانيةً تحت سماء باريس.

فيما كنتُ أُتابع احتفال الأَكاديميا، تداعتْ إِلى بالي الأَسبابُ التي هجَّرَتْكَ باكرًا من بيروت سنة 1976.. أَقول الأَسباب وأَقصد بالأَحرى المسبِّبين، وهُم ذاتهم اليوم كما منذ خمسين سنة ما زالوا يتناسلون في حكْم الدولة والتحكُّم بمصير شعبنا الذي أَوقعوه في البؤْس حتى أَوصلونا أَن نكون دولة باكية بَكَّاءَة شَحَّادة على رصيف الدول.. رهيبون في إِجرامهم يا أَمين، ودينوصوريون في البقاء أَزمنةً مطَّاطة شوهاء ولا يرحلون.. تافهون يا أَمين، وعقيمو فكْر وحضارة.. آنيُّون ويظنون أَنهم دائمون.. يتحاقرون كي يظلُّوا ممسكين بالسُلطة فيما العالم فقَد ثقته بهم ويرى إِليهم لا أَقل من مجرمي حروب.. وكيف لا يكونون، وهُم تلاطموا من أَجل الحكْم حتى وقعوا أَرضًا مشلولي القدرة والإِرادة، وراحوا مذعورين ينادون على الدول الكبرى تقرِّر عنهم وما زالوا يستكبرون.. لذا لا قيمة لكل ما كتبوا وهنأُوا من كليشيهات تافهة مثلهم حين سمعوا بفوزكَ وهُم لا يستاهلون حتى أَن يهنئوكَ.. إِنهم من لبنان الذي لا يشبهكَ: لبنان أَهل السلطة الذين يديرون الدولة ويَفشَلون بتفاهاتهم وخطاياهم.

الذي يشبهكَ أَنتَ ليس لبنان الدولة ولا السلطة.. إِنه لبنان الوطن الخالد الذي كنتَ أَجْلَسْتَه معكَ بين “الخالدين” على المقعد 29، واليوم تُسْكِنُهُ قلبكَ في الأَمانة الدائمة.. هذا هو لبنان الوطن الذي تستاهل زملاء لكَ فيه حملوه مثلكَ إِلى العالمية: هنا لبنان فيروز وعبدالحليم كركلَّا، هناك أَميركيًّا لبنان فيليب سالم ومي الريحاني، فرنسيًّا لبنان فينوس خوري غاتا وأَلكسندر نجار وعبدالله نعمان، إِبداعيًّا لبنان غبريال يارد وعبدالرحمن الباشا وبشارة الخوري وأَترابهم الكثيرين في العالم: تتصافحون وتتخاصرون وتتكاتفون حتى تستحقُّوا لبنان الوطن الحضاري ويستحقَّكم أَبناءَه الأَوفياء تجسِّدون في العالَم رسالته الخالدة انطلاقًا من دسكرة، من قرية، من ضيعة، من مدينة أَنجبتْكُم في لبنان.

تعرف يا أَمين؟ قبل أَسابيع كنتُ في عين القبو (توأَم “الـمَشْرع” الذي منه أَنت).. استضافني الدكتور عصام معلوف (ابن عمِّك فوزي الشقيق الأَصغر لوالدكَ رشدي).. سأَلتُ عصام عن بيتكم فدلَّني: “هذا هو بيت رُشدي وهو اليوم بات في عهدة أَمين”.. الله يا أَمين: غُمْتُ لحظاتٍ أَتصوَّرك فيه ولدًا حالِـمًا حمَلَ معه “الـمَشْرع” وظلَّ يسْتسْئِلُه عن صخرة طانيوس فيه حتى حملَتْه “الصخرة” من عين القبو إِلى “غونكور” إِلى “الأَكاديميا” إِلى الأَمانة العامة الدائمة لأَعلى مؤَسسة ثقافية في فرنسا.

هذا هو لبنان الذي يُشْبهكَ يا أَمين، لبنان الحقيقي، الـمبْدع عبر العصور، تحمله في قلبكَ ووجدانكَ، وتمضي به من قمة إِلى قمة.. فلبنان الوطن (لا السلطة ولا الدولة) ليس يليق به سوى القمم في التاريخ، ذات هُوَ من زمانٍ على جبين الصفحة الأُولى من ذاكرة التاريخ.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى