هل سيولد اليورو الرقمي ميتًا؟

هناك مخاوف عدة بالنسبة إلى إطلاق اليورو الرقمي إذ أنَّ هناك قضايا أساسية تتطلّب الحل إذا أُريدَ للعملة الأوروبية الرقمية أن تنجح.

البنك المركزي الأوروبيي: مهمته صعبة لإطلاق اليورو الرقمي.

هاني مكارم*

تُسلّطُ التقارير المرحلية الأخيرة الضوءَ على التزام البنك المركزي الأوروبي باليورو الرقمي، وهو وسيلة دفع رقمية صادرة عنه ومُتاحة لعامة الناس.

تُوَثِّقُ التقاريرُ خياراتِ التصميم التي تثير الشكوك حول أهداف البنك المركزي الأوروبي بالإضافة إلى الوسائل المُقتَرَحة لتحقيقها. يبدو من الممكن تمامًا أن يولد اليورو الرقمي ميتًا.

أهداف البنك المركزي الأوروبي الصريحة والضمنية

تشير التقارير المرحلية الصادرة عن البنك المركزي الأوروبي إلى ثلاثة أهداف رئيسة لليورو الرقمي:

  • ينبغي له أن يُحافظَ على الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي في مجال المدفوعات من خلال تقديمِ بديلٍ للمبادرات الخاصة والمشاريع السيادية، مثل اليوان الرقمي في الصين.
  • ينبغي أن يُساعدَ على زيادة المنافسة وتحدّي الوضع المُهَيمِن لمُقَدِّمي خدمات الدفع من القطاع الخاص، مثل شركات بطاقات الائتمان الأميركية.
  • ينبغي أن يكون بمثابة مرساة نقدية قوية تضمن ثقة الجمهور في النظام النقدي حتى عندما يستمر النقد ــ الرابط التقليدي بين المواطنين والبنك المركزي ــ في خسارة حصته في السوق كوسيلة للدفع.

ويتطلب تحقيق هذه الأهداف وجود أداة دفع جذابة واعتمادها على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا.

وتماشيًا مع مبادئ سياسة مجموعة الدول السبع ومجموعة الدول العشرين، يريد البنك المركزي الأوروبي أيضًا التأكد من أن اليورو الرقمي لا يضيف المزيد من عدم الاستقرار إلى النظام المالي. ويبدو أن البنك قد قفز إلى استنتاج مفاده أن هذا يستلزم “التعامل المصرفي كالمعتاد”. وهناك هدفٌ رابع، والذي كان البنك المركزي الأوروبي أقل وضوحًا بشأنه: عدم إلحاق الضرر بالبنوك وحماية نموذج أعمالها الحالي.

وهذا الهدف الرابع الضمني يُهيمن على كل الأهداف الأخرى. وخيارات التصميم الرئيسة التي يفضلها مجلس المحافظين تعمل على تقليص جاذبية اليورو الرقمي بدلًا من زيادتها. وهي تشمل وضع حدود للمستهلكين (بضعة آلاف من اليورو)، وحتى حدود أقل للتجار (صفر)، وعلاوات الفائدة السلبية خلال فترات الضغوط المالية. وعلى الرغم من هدف تأمين مرساة نقدية قوية، يبدو أن البنك المركزي الأوروبي ينظر إلى هذه الميزات باعتبارها دائمة.

عقبات أمام التبنّي

يريد البنك المركزي الأوروبي الاستعانة بمصادر خارجية لنشر اليورو الرقمي للوسطاء الماليين المنظمين. وهذا أمرٌ منطقي لأنَّ مجال عمليات التجزئة ليس من بين الاختصاصات الأساسية للبنك المركزي الأوروبي. ولكنه يثير أيضًا تضاربًا خطيرًا في المصالح.

وبما أنَّ حصّةً كبيرة من أرباح البنوك تأتي من تقديم خدمات الدفع، فليس من الواضح لماذا يجب أن تكون لدى البنوك مصلحة في رؤية اليورو الرقمي على قيد الحياة وبصحة جيدة والتنافس على حصة من سوقها. ومن أجل مواءمة الحوافز، يتعيّن على البنك المركزي الأوروبي أن يتقبّلَ حقيقةً مفادها أن الخدمات المصرفية الرقمية المُرتبطة باليورو، مثل الإلحاق أو إدارة المحفظة، لا تقل ربحية عن خدمات الدفع المعاصرة.

هناك المزيد من العقبات الأساسية التي يتعيّن التغلّب عليها قبل اعتماد اليورو الرقمي على نطاق واسع. وكما أظهر استطلاعٌ أجراه البنك المركزي الأوروبي في العام 2022، يُفضّلُ المستخدمون المدفوعات النقدية لأسبابٍ تتعلّق بالخصوصية والمدفوعات بالبطاقات للراحة التي يقدمونها (سريعة وآمنة). لذا، فإنَّ الراحة والخصوصية أمران أساسيان للتبنّي، ولكن على كلا البُعدَين من المرجّح أن يُنظَرَ إلى اليورو الرقمي على أنه دون المستوى.

من المؤكّد أنَّ أفضلَ الحلول المُتاحة للقطاع الخاص لمدفوعات التجزئة سوف تُهيمنُ على اليورو الرقمي من حيث راحة المُستخدم. وفي ما يتعلق بالخصوصية في التعامل مع الحكومة فضلًا عن مقاومة الرقابة (هل يمكنني التأكد من أن الحكومة تسمح لي بسداد المدفوعات لمن أريد)، فإن ثقة العديد من المواطنين في أوروبا بالبنك المركزي الأوروبي محدودة.

وأولئك الذين يثقون في التأمين على الودائع أو لا يشعرون بالقلق إزاء الفارق بين الأموال العامة والخاصة سوف يتردّدون في مبادلة أدوات الدفع التي يختارونها بأداة البنك المركزي الأوروبي الجديدة. وقد يُقدّرُ الجميع أن اليورو الرقمي سوف يحافظ على قيمته تحت أي ظرف من الظروف، ولكن نظرًا إلى عائده المنخفض المحتمل، فمن المرجح أن يبحثوا عنه فقط خلال فترات الهروب إلى الأمان.

مصادر الطلب القوية الأخرى ليست واضحة أيضًا. إن تطبيقات التعاملات بين الشركات (B2B) ليست محور مشروع اليورو الرقمي، والتجار الذين يبلغ حد احتفاظهم صفرًا بالكاد سيكونون محركًا للتغيير المؤسسي وسيظلون أسرى للحلول الخاصة.

يبدو أن الأسواق تشك في إمكانات اليورو الرقمي أيضًا. هذا ما تقترحه ورقة المناقشة الصادرة عن مركز أبحاث السياسات الاقتصادية لعام 2022. بعد الإعلان عن اليورو الرقمي في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، كان رد فعل أسعار أسهم البنوك التي تعتمد بشكلٍ أكبر على تمويل الودائع أكثر سلبية من أسعار أسهم البنوك التي تعتمد بشكلٍ أقل على الودائع، لكن هذا الاختلاف بدأ يختفي عندما تم الإعلان عن خططٍ بشأن حدود الاحتفاظ والأقساط السلبية. وهذا يعني أن الأسواق تبدو وكأنها تنظر إلى اليورو الرقمي في قالبه الحالي باعتباره قضية هامشية بالنسبة إلى البنوك أو حتى باعتباره غير ذي صلة على الإطلاق.

المزايا الخاصة مقابل المزايا الاجتماعية

وهذا يدل على أن الإطلاقَ الناجح لليورو الرقمي ليس مضمونًا تمامًا. ولن تكفي حملة العلاقات العامة لإقناع الأوروبيين باستخدام العملة الرقمية. سيتطلب التبنّي على نطاق واسع حزمة جذابة من ميزات الإنتاجية والراحة والخصوصية. ولكن بدلًا من اتباع نهج تسويقي عدواني، يتبع البنك المركزي الأوروبي العكس، لأن ذلك يعوق هدفه المتمثل في حماية نماذج أعمال البنوك.

هذا يمثل مشكلة لأنَّ الحجة لصالح اليورو الرقمي يمكن أن تكون مُقنعة تمامًا من منظور دافعي الضرائب والسياسة العامة حتى لو كانت مختلطة أو حتى ضعيفة من وجهة نظر المستخدم الفردي.

لا يمكن لليورو الرقمي الفعّال أن يساعد فقط على تحقيق الأهداف الثلاثة الأولى للبنك المركزي الأوروبي -الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، وزيادة المنافسة، والتثبيت النقدي القوي- ولكن بشكلٍ عام يمكنه أن يساعد على تقليل التكاليف الاجتماعية لتوفير السيولة، وتقليص حجم المؤسسات الأكبر من أن يُسمَح لها بالإفلاس بشكل كبير، ومعالجة المشاكل والتنظيمات المصرفية المرتبطة بها، وزيادة الشفافية بشأن تكاليف وفوائد خلق السيولة.

وهذه المكاسب المحتملة كبيرة وتستحق التدقيق الدقيق. وقد يتطلب تحقيق هذه الأهداف تقديم الإعانات لتعزيز التبنّي بدلًا من الردع والقيود.

التهديد لتمويل البنوك

كثيرًا ما نسمع أنَّ المكاسبَ المُحتملة لليورو الرقمي، حتى لو كانت كبيرة، تتضاءل أمام تكاليف “عدم الوساطة” الضمنية للبنوك، وتحديدًا الآثار السلبية على الائتمان ونمو إعادة تخصيص التمويل من الودائع المصرفية إلى اليورو الرقمي. إنَّ تردّدَ البنك المركزي الأوروبي في تبنّي اليورو الرقمي بالكامل قد يكون منطقيًا إلى حدٍّ كبير إذا كانت هذه المخاطر تلوح في الأفق.

ونحن نعتقد أن هناك مبالغة في التأكيد على هذه الحقيقة: فالبنوك ستعرف مُقدَّمًا بسنوات عديدة أن اليورو الرقمي آتٍ. وينبغي عليها أن تضع الخطط وفقًا لذلك. ومن الممكن أن يساعد البنك المركزي الأوروبي من خلال تزويد البنوك بتسهيلاتِ تمويلٍ مؤقتة لتخفيف التكاليف خلال المرحلة الانتقالية. نعم، قد يعني اليورو الرقمي ارتفاعَ تكاليف التمويل بالنسبة إلى البنوك، ولكن إذا كان هذا هو الحال، فإنه سيعكس إلى حدٍّ كبير أن أسعارَ الفائدة الحالية على الودائع مُنخَفضة بسبب التأمين على الودائع وسياسات “الأكبر من أن يُسمَح لها بالإفلاس”.

من الممكن أن يؤدي القضاء على هذا التشويه إلى خفض الأرباح المدفوعة لمساهمي البنوك، ويظل منطقيًا من الناحية الاقتصادية.

لقد سلّطَ المؤرخون والاقتصاديون والمعلّقون ومحافظو البنوك المركزية رفيعو المستوى (السابقون في الغالب) على حدٍّ سواء الضوء على مخاطر الاستقرار المرتبطة بإنشاء الأموال الخاصة والخدمات المصرفية الاحتياطية الجزئية في بنيتنا النقدية. إن ظهور العملات الرقمية للبنوك المركزية بالتجزئة يوفر الفرصة لإعادة التفكير وإعادة تقييم هذه البنية.

وبدلًا من إعادة التفكير، يبدو أن البنك المركزي الأوروبي اختار الوضع الراهن – والتضحية باليورو الرقمي على مذبح العمل المصرفي كما نعرفه.

  • هاني مكارم هو مدير تحرير “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى