من فتح الطريق أمام التونسيين للذهاب إلى المحرقة؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

غابَ يوماً ولم يعد، إنتهى من دراسته، وبفضل مكانة أهله توفّق إلى الإشتغال براتب مرتفع. ومع ظهور بعض العلامات الدالّة عليه التي لم يُولِها الأهل الأهمية اللازمة، ذهب في أحد الأيام ولم يعد، فإحتارت العائلة وأبلغت عنه، ولكن من دون فائدة … وبعد يومين إتصل هاتفياً من ليبيا وأعلن أنه سافر للمشاركة في الجهاد في سبيل الله، وأنه في طريقه إلى سوريا… وأخذته طائرة تركية نحو إسطنبول، ومنها إقتيد إلى الحدود حيث إجتازها لينضم إلى فرق مواجهة النظام السوري.
بعد أيام جاء نعيه من طريق مكالمة تليفونية، وحاول المتحدث أن يدفع العائلة للصبر من خلال كلمات من نوع “لا تحزنوا إنه شهيد في الجنة”.
*****
منذ أيام إنتشرت أخبار على “فايسبوك”، نُسبت إلى صحيفة “الشروق” التونسية، تفيد بأن السلطات السورية “أعدمت 500 من الأسرى التي لديها ممن تم ّالقبض عليهم بصدد محاربة الجيش السوري، من بينهم 122 تونسياً”، كما ردّد موقع “كابيتاليس” الخبر ذاته مع خفض العدد إلى 100 تونسي، غير أن السلطات التونسية كذّبت الخبر، وكأن لها ما يؤكده أو يفنده في ظل علاقات ديبلوماسية مقطوعة منذ 6 سنوات في ظل خطأ لا يُغتفر.
وهناك تساؤلات ملحة وحارقة: من الذي فتح الطريق واسعاً لأعداد من التونسيين للسفر إلى المحرقة؟ ألم يكن عدد منهم ضحية تضليل في الجوامع، ومن جمعيات ذات تمويل مشبوه بعضه رسمي، وحتى من أحزاب معينة؟ إضافة إلى سموم عدد من القنوات التي يتواصل بث برامجها على الرغم من وجود وسائل فنية متطورة لقطع ذلك البث في مجالنا على الأقل، فضلاً عن تمكينها من ذبذبات على أشهَر قمر إصطناعي في المنطقة “النايل سات” المصري من أجل حفنة أخرى من الدولارات الرنانة، التي تدفعها السعودية وقطر، وترعاها تركيا، بمباركة من الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا؟
****
بشار الأسد قاتل وسيّىء على شاكلة أبيه، والعائلة التي تحكم سوريا ولبنان بالحديد والنار رغم أقليتها الفاضحة في بلدها، بتأييد من الشيعة الصفوية في إيران ويدها الطويلة “حزب الله” في لبنان، والذي أدخل الإيرانيين إلى بلده وتدخّل ضد الثوار في سوريا، لا يقل أو يزيد سوءاً عن “داعش” ولا “جبهة أحرار الشام” (جبهة النصرة) ولا “القاعدة”. وقد إشتركا معاً في تدمير بلد من أكثر البلدان العربية تقدماً وعراقة حضارية، والفارق الوحيد بينهما هو نمط المجتمع الذي يبشر به هذا أو ذاك. وهذا رغم سيئاته وجرائمه يبشّر بنمط مجتمعي مساير للعصر، وذاك يبشّر بنمط مجتمع متخلف منتسب إلى مذاهب عرفت بإرتدادها حتى ما قبل الإسلام بدعوى العودة إلى صفائه.
مئات ألوف القتلى يحمل وزرهم هؤلاء وأولئك، تركّز الحديث عنهم في ما جرى في حلب الشرقية وهي عبارة عن قطعة أرض من 3 إلى 5 كيلومترات مربعة تم دكّها، فيما المقاتلون الإرهابيون يرتهنون ما بين 20 إلى 50 ألفا من المدنيين، ويمنعون عنهم الطعام والدواء المتاح الذي جاء من الاغاثة الدولية، لتجويعهم وتسويق ذلك دولياً، وفقاً لما جاء في شهادات محايدة أخذت تبرز حجم الكارثة الإنسانية ( القناة الخامسة الفرنسية المعادية لبشار الأسد).
وإذ غادر الألوف، ومنهم المقاتلون الارهابيون، حلب الشرقية، فقد أخذت تبرز معالم الكارثة، من إحتجاز الأهالي وإعتبارهم دروعاً بشرية، إلى تجويعهم. وبدأت تتضح أبعادها بواسطة “المقاومين”، كما يحلو للغرب تسميتهم، فيما ترك المقاتلون أغذية وأدوية حُجِبت عن مستحقيها المدنيين المرتهنين، حيث إضطر أولئك المقاتلون أو من خرج منهم حتى الآن أن يتركوا أسلحتهم وأكثرها متطور وثقيل، مما كان يُستخدم في مقاومة القوات الموالية للنظام ومليشيات “حزب الله” اللبناني، وكتائب إيران التي كانت تدفع للحرب دفعاً، وكذلك في دك الأحياء السكنية في بقية حلب للإستيلاء عليها.
وتبرز أفلام من وصل إلى إدلب من الإرهابيين ( 65 كيلومتراً إلى الجنوب الغربي من حلب وهي ما تزال بيد “داعش” و”النصرة”) مجردًا حتى من الأسلحة الفردية، أن المقاتلين ناقمون على قياداتهم، التي كانت أول من تسرّب وهرب من المعركة وخذل صغار المقاومين، الذين سيحاسبون حساباً عسيراً يصل غالبا إلى الإعدام فقد كان مقدرا لهم ( وفقاً للقيادات الداعشية والنصروية ) أن يبقوا حتى الفناء ولا يستسلموا، أو يغادروا.
ومن المؤكد أن بين من قتلوا في هذه الحرب الأخيرة داخل ذلك المربع الصغير في حلب الشرقية أعداداً من التونسيين، لم يُبلِّغ عنهم أحد، بسبب فقدان الاتصال بين المقاتلين والعالم الخارجي بسبب فرض حصار محكم عليهم، بحيث لم يتسنّ إعلام العائلات كما كان يحدث من قبل وربما لتكاثر عدد القتلى، فيما المعروف أن السلطات السورية الرسمية عادة لا تبلغ عن الذين يتم إعدامهم، بعدما كانت هددت بأن لا أحد ممن يقع في يدها لن يفلت من الاعدام بمحاكمة أو من دون محاكمة، وهو على ما يبدو ما يجري أيضاً في العراق.
****
من هنا تأتي الأسئلة الحارقة: ما هو عدد الثكالى من الأمهات ممن تم التغرير بأبنائهن أو أزواجهن؟ وما هو عدد اليتامى الباقين بلا سند؟ ومن هو المسؤول في بلادنا (تونس) عن ترحيلهم إلى المحرقة؟ وهل تم تحقيق جدي لمعرفة الخيوط الموصلة لمن يتحمل تلك المسؤوليات الثقيلة تجاه هذا الشعب كله ؟ وهل هناك من حساب على الأقل بالمعرفة وتوجيه أصبع الاتهام؟ ثم من هو المموِّل والمُنظِّم والمرحِّل؟ ثم ما هي الدول التي وقفت وراء هذه الجرائم في حق أبناء هذا الوطن؟ وأيضاً ما هي الجوامع التي كانت بؤراً للانتداب للترحيل؟ وأين القائمين عليها؟ وهل بقوا في مواقعهم ؟؟؟؟
مسؤولية الدولة من صنفين:
أولهما فضح الجريمة ومرتكبيها والمحاسبة القانونية.
وثانيهما إعتذار الحكومة التونسية من الشعب التونسي عن التقصير، إن لم يكن التورط والتواطؤ، في إطار إستمرارية الدولة التي تتحمل مسؤولية ما جرى في كل وقت منها أو من مصالحها.

• صحافي وكاتب تونسي، ورئيس التحرير الأسبق لصحيفة “الصباح” التونسية fouratiab@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى