اليورو يتراجع: كيف يُمكِن للعملة الأوروبية أن تُفسِد النظام المالي العالمي

على الرغم من صموده أكثر من 15 عاماً حتى الآن، فإن بعض الخبراء ما زال يشكك ببقاء اليورو ويُحذّر بالتالي من أنه سيكون “مولد المخاطر” في النظام المالي العالمي بدلاً من أن يكون “المساعد” على إستقراره.

البنك الأوروبي المركزي: مستقل ولكن…

بقلم كاثلين ماكنمارا*

عندما تمّ إنشاء اليورو قبل نحو 15 عاماً، كانت هناك تكهنات بأن العملة الجديدة سوف تتحدّى هيمنة الدولار الأميركي ودوره كعملة إحتياط دولية مُفضَّلة. لكن الوصي على اليورو، البنك المركزي الأوروبي، لم تكن لديه شهية كبيرة لمثل هذا الدور. وبالمثل، أظهرت أسواق الصرف الأجنبي دعماً ضئيلاً لإضعاف هيمنة الدولار وإستبداله باليورو، على الرغم من التحرك والتحوّل إلى السندات المُقوَّمة باليورو وتعزيز قيمة العملة الأوروبية على مدى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهذا كان يعني أن الإتحاد الأوروبي قام، إلى حد كبير، بدور “مساعد” للهيمنة المالية الأميركية طوال فترة ما بعد الحرب حتى اليوم.
لكن الآن، قد يكون الوضع “المساعد” لأوروبا موضع شك وتساؤل. إن القوى الشعبية التي ظهرت في جميع أنحاء القارة العجوز تتحدّى شرعية اليورو وتُهدد الأسس المؤسسية والإيديولوجية التي يقوم عليها. ومع عدم اليقين هذا تنشأ إمكانية تحوّل الإتحاد الأوروبي إلى “مُولِّد المخاطر” في النظام المالي العالمي أو ربما أسوأ من ذلك – “المُفسِد” للنظام نفسه.
تطوّر سياسي غير كامل
تُعتَبَر السلطة السيادية للبنك المركزي الأوروبي أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الإستقرار الأوسع للنظام المالي العالمي. ولكن إحدى نقاط ضعفه الرئيسية تنطوي على خصوصيات تصميم اليورو: على عكس كل العملات الناجحة الأخرى، فإن البنك المركزي الأوروبي يقف على المستوى الأوروبي من دون المؤسسات الإجتماعية والسياسية الأوسع نطاقاُ اللازمة والضرورية التي تُعطي العملات أساساً متيناً ودائماً. وهناك أربعة أدوار التي يكون فيها هذا الهيكل العريض للسلطة السياسية لازماً: أن يكون بمثابة مُولِّد موثوق لثقة وسيولة السوق، وأن يُوفّر تنظيماً قوياً للمخاطر المالية، وأن يبني آليات لإعادة التوزيع المالي والتكيّف الاقتصادي، وأن يخلق التضامن الضروري للدعم في الأوقات الصعبة. وهذا النقص في الحكم الأوسع هو الذي يضع اليورو في خطر ويخلق إمكاناته “المُفسِدة” للنظام المالي الدولي، وليس أوجه القصور فيه بإعتباره العملة المُثلى، كما قال بعض الإقتصاديين مثل بول كروغمان.
وفي ما يتعلق بالعنصر الأول – الذي يخدم كدعم مرئي ومتوازن لطمأنة الأسواق المالية – فإن منطقة اليورو تُحقق أداءً جيداً نسبياً. وعلى الرغم من أن البنك المركزي الأوروبي تأسس في الأصل بإعتباره مصرفاً مركزياً مستقلاً بشكل كبير، ونظراً إلى تفويضه الضيِّق لمحاربة التضخم وحماية قيمة اليورو، فقد أثبت أنه أكثر إبتكاراً في توفير الثقة والسيولة على مرّ الوقت مما كان يتصوره مُنشِؤوه عندما إجتمعوا في ماستريخت في أوائل تسعينات القرن الفائت. وأبرز هذه الإبتكارات أن البنك المركزي الأوروبي، بقيادة ماريو دراغي، أصدر مئات المليارات من اليورو في قروض طوارئ إلى البنوك الأوروبية على مر السنوات التي أعقبت إنهيار الإقتصاد اليوناني بعد الركود العالمي في العام 2008. وقد عكست هذه السياسة إلى حد ما قرار وزارة الخزانة الأميركية ومجلس الاحتياطي الفيديرالي في العام 2008 لإنقاذ البنوك الأميركية من خلال برنامج إغاثة الأصول المضطربة. كما كانت عمليات إعادة التمويل الطويلة الأمد التي قام بها البنك المركزي الأوروبي والتي تقرض المال بأسعار فائدة منخفضة جداً للدول الأعضاء المضطربة، خروجاً كبيراً عن صورة البنك المركزي الأوروبي كمؤسسة لا تعمل على دعم الكيانات التي تُعاني من ضائقة مالية. وقد أثبتت عمليات إعادة التمويل الأطول أجلاً نجاحاً نسبياً في تهدئة الأسواق وإعطاء الدول الأعضاء المُثقَلة بالديون مساحة التنفس للإصلاح – حتى وإن كانت مطالب السياسة العامة للتقشف قد ألحقت ضرراً شديداً.
وقد قوبلت هذه السياسات والبرامج الجديدة بمجموعة من التصريحات الأكثر قوة ووضوحاً من قيادة البنك المركزي الأوروبي. في صيف 2012، تلقّى تصريح دراجي “العضلي” القوي، الذي تعهّد فيه بأن مؤسسته ستفعل “كل ما يلزم” لإنقاذ اليورو، الكثير من الإهتمام في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، ولكنه كان واحداً فقط من العديد من التصريحات التي جاءت من البنك المركزي الأوروبي بالنسبة إلى أزمة منطقة اليورو. ومن حيث قدراته المؤسسية ودوره في النقاش السياسي، يلعب البنك المركزي الأوروبي دوراً حاسماً وغير متوقع كمُقرض الملاذ الأخير غير الرسمي، وبالتالي مُقللاً من دور الاتحاد الأوروبي ك”مُولِّد مُحتمَل للمخاطر”.
مع ذلك، فإن العامل الثاني الذي يتطلب إتحاداً مصرفياً ومالياً أوروبياً فقد أظهر فيه الإتحاد الأوروبي مزيداً من الضعف. إن التكامل المالي العميق عبر الدول الأوروبية يتطلب إطاراً شاملاً للحماية من عدوى الأزمات المصرفية. وعلى الرغم من أن هناك بعض التحرك نحو هذا الإطار النقابي المصرفي، فإنه لا يزال غير مُكتمِل. وقد نجحت المفوضية الأوروبية، بدعم من البنك المركزي الأوروبي، في التوصل إلى إتفاق بشأن إنشاء آلية إشراف واحدة لمصارف منطقة اليورو. ويتولى البنك المركزي الأوروبي قيادة هذه المبادرة، ويوفر قاعدة بيانات واحدة لجميع المصارف. إن الهيئة المصرفية الأوروبية، التي أنشئت في العام 2011، هي ممثل جديد مهم يُنظّم دول منطقة اليورو وخارجها كجزء من النظام الأوروبي للرقابة المالية. غير أن هذه التطورات التنظيمية والمؤسسية لم تتضمن بعد عناصر حاسمة مثل التأمين المشترك على الودائع، الذي من شأنه أن يحمي من تداعيات كارثية على المصارف في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، كما لم يتم بعد تنفيذ قواعد تسوية البنوك للتعامل مع الأزمات المصرفية في المستقبل.
العنصر الثالث – الإتحاد المالي والإقتصادي – لا يزال بعيداً كثيراً من متناول الإتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن البعض قد جادل بأن الإتحاد الأوروبي يحتاج فقط إلى إتحاد مصرفي أكثر جدوى سياسياً، فإن الإتحاد المالي لا يزال حاسماً في إدارة رافعات وأسهم العملة المشتركة من خلال توفير آليات لإعادة التوزيع المالي والتكيّف الاقتصادي. ويتميّز الإتحاد المالي بالقدرة على إستخراج الإيرادات من خلال الضرائب، وإعادة توزيع الأموال من خلال الإنفاق العام، وجمع أموال إضافية من خلال أدوات الدين العام. ولا يوجد لدى الإتحاد الأوروبي حالياً أيّ من هذه الوظائف الصريحة، على الرغم من أنه (بشكل أقل وضوحاً) يُعيد توزيع الأموال من خلال صندوق التنمية الإقليمي الأوروبي والصندوق الإجتماعي الأوروبي. وقد أثبتت المقترحات المُتعلّقة ب”اليوروبوند” وغيرها من الطرق لتبادل الديون في منطقة اليورو أنها تشكل موضوعاً ملتهباً سياسياً لأنها تصرّ على تكامل سياسي أعمق بكثير من إستعداد الكثيرين في أوروبا على القبول به، في حين يُعطي البعض في ألمانيا الخوف والقلق من أن يكونوا أمام شرك للإنفاق المُبذّر من قبل جيرانهم. وبدلاً من الإتحاد المالي، سعت قيادة الإتحاد الأوروبي ورؤساء الدول والحكومات بقوة إلى فرض برامج التقشف، التي تنطوي على تخفيض العجز والديون، على المجتمعات التي لا تزال تُعاني من تداعيات الأزمة المالية. وتبدو هذه الجهود أشبه ببرامج الإقراض المشروطة وقروض التكيّف الهيكلي التي يقدمها صندوق النقد الدولي أكثر من جزء لا يتجزّأ من نظامٍ للحوكمة الذي يمكنه توحيد الإتحاد النقدي. إن هذه البرامج التقشفية تُعرّض مستقبل الاتحاد الأوروبي للخطر، وبالتالي الإستقرار في النظام المالي العالمي الأوسع.
أخيراً، يفتقد الإتحاد الأوروبي أيضاً إلى إتحاد سياسي أوسع نطاقاً، الذي يشكل الأساس الشرعي لجميع العملات الأخرى. وعلى الرغم من أن الإتحاد الأوروبي أصبح مؤسَّسياً بشكل ملحوظ على مدى السنوات ال50 الماضية، مع إطار قانوني يشبه الدستور وسلسلة من السياسات والممارسات التي تؤثر بعمق في الحياة اليومية لجميع الأوروبيين، فإنه لا يملك كل هياكل الحكم مثل الدولة التي تدعم جميع العملات الوطنية الأخرى. وعلى حساب الإستقرار الأوروبي والعالمي، فإن الإتحاد الأوروبي ببساطة لم يُنشىء التضامن الإجتماعي والمؤسسات السياسية الشرعية لتضمين اليورو على نحو ملائم في إطار سياسي أوسع.
ولأن الآليات السياسية لتحقيق الإستقرار في الإقتصاد الأوروبي لا تزال بعيدة المنال، فإن أزمات تدفقات اللاجئين وإعادة توطين المهاجرين، وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، وإزدياد المجموعات الشعبوية المناهضة للإتحاد الأوروبي، قد أثارت شكوكاً جدية في المشروع الأوروبي الأوسع، وحوّلت دور أوروبا بإعتبارها “المساعد” إلى “مولّد المخاطر” في النظام المالي العالمي.
تناقص الليبرالية الجديدة
لكن التشكيلات المؤسسية ليست العامل المهم الوحيد للنظر في أمن دور الإتحاد الأوروبي في النظام المالي العالمي. إن الأفكار هي حاسمة ولا مفرّ منها لشرعية الأجهزة أيضاً. في الواقع، إن البنك المركزي الأوروبي المعزول سياسياً بشكل كبير هو في حدّ ذاته جاء نتيجة لثقافة أوسع من الليبرالية الجديدة، ومجموعة من الأفكار التي تشمل مجموعة من السياسات، مثل التفويض الصارم للسيطرة على العرض النقدي لخبراء لا صلة لهم بالديموقراطية التمثيلية. والأساس المنطقي النظري وراء هذه الفكرة واضح: السياسيون الذين يطاردون الأصوات من المرجح أن يحاولوا التلاعب بالإقتصاد بطرق تجعل الجمهور سعيداً في المدى القصير، متجاهلين إمكانية إنتاج سياساتهم النقدية لمشاكل إقتصادية في المدى الطويل. وكان عزل المصارف المركزية عن التأثير المباشر للمسؤولين المُنتَخبين من أبرز التغيّرات التي طرأت على الحكم على الصعيد العالمي في تسعينات القرن الفائت. من جهته أخذ البنك المركزي الأوروبي، الذي أنشئ في العام 1999، إستقلاله إلى أقصى الحدود، مع قنوات ضعيفة فقط للتمثيل والرقابة السياسيين.
وقد حقق إستقلال البنك المركزي وضعاً هائلاً في الحياة السياسية المعاصرة، مع القليل من التشكيك في منطقه أو فعاليته. لكن الأدلة الداعمة لإستقلالية البنك المركزي كانت دائماً مختلطة في أحسن الأحوال. ويمكن تفسير هذا التناقض بما أسميه إنتشار “الخيال العقلاني”. تختار حكومات، مثل تلك الموجودة في منطقة اليورو، تفويض السلطة المالية للحصول على شرعية مهمة وخصائص رمزية، والتي هي جذابة بشكل خاص في أوقات عدم اليقين أو الضائقة الإقتصادية.
هذه الديناميكية هي عقلانية ومفيدة، ولكن فقط عندما توضع في سياق ثقافي وتاريخي محدد جداً يُضفي الشرعية على هذا التفويض – الثقافة النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة). لكن الإنتقال إلى بنك مركزي مستقل يبدو فقط أنه لوقاية السياسة النقدية من السياسة. في الواقع، كما جادلت “جاكلين بيست” في “فورين بوليسي”، فإنه يرسّخ مجموعة محددة من الإيديولوجيات والمواقف الحزبية التي تفضّل بعض الجماعات المجتمعية، وعلى الأخص المستثمرين، على آخرين، مثل العمال. وإستفاد البنك المركزي الأوروبي من توافق الآراء القوي بشأن رغبته بالإستقلال الذي كان جزءاً لا يتجزأ من التحوّل النيوليبرالي في تسعينات القرن الفائت فصاعداً.
والسؤال هو: بعد عقود عدة من التضخّم المُنخفِض وبطء النمو، هل ستصمد هذه الشرعية الدينامية للبنك المركزي المستقل؟ إن هذا الأمر بعيد من الوضوح، لأن الآثار الكارثية لسياسات التقشف المفروضة على البلدان المدينة مثل اليونان وإيرلندا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا قد خلقت إنقسامات سياسية عميقة وأدّت إلى نشوب رد فعل شعبي ضد التكنوقراطيين المنعزلين في الاتحاد الأوروبي. ومع ظهور الأحزاب الأوروبية المُشَكِّكة في الاتحاد الأوروبي ضد التوافق الليبرالي الأرثوذكسي الذي حكم الإتحاد الأوروبي، فمن غير الواضح ما إذا كانت الأسس الشرعية للبنك المركزي الأوروبي واليورو لا تزال قائمة اليوم. إذا تمّ الطعن في تبرير إستقلالية البنك المركزي الأوروبي ولكن لم يتم تحديث التكوين المؤسسي للاتحاد الأوروبي لإقراض اليورو السلطة السياسية التي يحتاج إليها، فإن هناك إحتمالات عالية أن الإتحاد الأوروبي سوف يعاني بشكل كبير.
فيما يخشى المراقبون الآن من أن الولايات المتحدة هي في وضع ضعيف هيكلياً بسبب رفض الرئيس دونالد ترامب على ما يبدو لدور أميركا ك”أمة لا غنى عنها”، فإن التطور السياسي غير المكتمل للاتحاد الأوروبي والردود العنيفة ضد إيديولوجية البنك المركزي الأوروبي الشرعية تطرح مسألة قدرة أوروبا على الإبحار وتجاوز الأزمات المستقبلية. إن هذه العوامل تجعل الإتحاد الأوروبي “مُولِّد المخاطر” على أقل تقدير و”المُفسِد” المُحتمَل في النظام المالي العالمي في أسوأ الأحوال. ولا يُمكن للنظام المالي العالمي أن يتحمّل مثل هذه النتيجة.

• كاثلين ماكنمارا أستاذة مشاركة متخصصة يالحكومة والسياسة الخارجية، ومديرة مركز مورتارا للدراسات الدولية في جامعة “جورجتاون”. وهي مؤلفة “عملة الأفكار: السياسة النقدية في الإتحاد الأوروبي” (مطبعة جامعة كورنيل، 1998)
• هذا الموضوع كُتب بالإنكليزية وعرّبه قسم الأبحاث والدراسات في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى