التعاون الإقليمي البَيني في مجال الطاقة يمكنه إطلاق إمكانات منطقة الشرق الأوسط

على الرغم من أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عرفت كيف تتعاون مع العالم في مجال الطاقة لتجني الأموال الضخمة، لكنها لم تستطع التعاون في ما بينها في هذا المجال، الأمر الذي أفقدها مناعتها وحرمها فوائد كثيرة. ولكن كيف يمكن أن يتم هذا التعاون؟ وهل هو ممكن؟

مشروع دولفين للغاز: مثال ناجح للتعاون البيني الخليجي
مشروع دولفين للغاز: مثال ناجح للتعاون البيني الخليجي

لندن – باسم رحال

على مدى الأجيال القليلة الماضية، كان من الصعب لَوم أولئك المتشائمين حول مستقبل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لقد بدت المنطقة في أوائل العام 2016 أنها سقطت في حالة من الإضمحلال الدائم. من ناحية أخرى، سيكون من الظلم نسيان بعض الإنجازات التي تحققت في السنوات ال40 الفائتة، وكثير منها قد تمّ على أساس الميزة النسبية الطبيعية التي تتمتع بها المنطقة في مجال المواد الهيدروكربونية الوفيرة والقليلة الكلفة.
لا تقتصر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فقط على إستخراج النفط الخام أو الغاز الطبيعي، بل تشمل أيضاً تطوير صناعات كبيرة تعتمد عليها مثل الكيماويات والأسمدة والإسمنت والمعادن. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بعلاقات بينية ذات منفعة متبادلة في مجال الطاقة، فلم يكن هناك تعاون إقليمي كبير، حتى في أغنى دول المنطقة. وبطبيعة الحال، إن مجرد إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي لا يتطلب الكثير من التبادل المحلي، ولكن يجب أن يكون هناك على الأقل تشجيع كبير للتجارة المنفعية ،على سبيل المثال، بين الجزائر والمغرب، وبين قطر والمملكة العربية السعودية، والعراق والكويت، أو سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة. حتى الآن، مع ذلك، كانت غالبية العلاقات بين مستهلكي ومنتجي الطاقة إقليمية داخلية في طابعها بدلاً من أن تكون إقليمية بينية في جوهرها، وهذا يعني وقوعها في الغالب بين منتجي الطاقة في الشرق الأوسط والمستهلكين في العالم الصناعي، بمن فيهم أولئك الموجودون في أوروبا، أميركا الشمالية، والشرق الأقصى. وهذا النقص في تجارة الطاقة والصناعة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعود إلى أسباب سياسية، ذلك أن بلدان المنطقة لم تطوِّر علاقات مبنية على الثقة، ناهيك عن حلّ النزاعات والخصومات القديمة. في الأساس، كان الإفتقار إلى الحكم الرشيد هو سبب عدم التعاون في مجال الطاقة.
وبطبيعة الحال، إذا إستمر هذا الإتجاه من قلة التعاون وتدنّي مستوى الحكم، فسوف نرى المزيد من الشيء نفسه. إن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعلى وجه الخصوص في الخليج، سوف تتنافس ليس فقط بين أنفسها، ولكن أيضاً مع منتجين عالميين آخرين مثل روسيا، والآن الولايات المتحدة، للحصول على حصة في أسواق النفط الخام والغاز الطبيعي العالمية. والبلدان التي تتمتع برؤية أفضل لتطوير المشاريع التحويلية الصناعية، لا سيما دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر والمملكة العربية السعودية، سوف تبتعد من الإعتماد على مبيعات الهيدروكربونات والبدء في إستثمار مواردها في منتجات تحويلية ذات قيمة مضافة، وأبرزها البتروكيماويات والأسمدة. مع ذلك، من دون تعاون داخلي بيني إقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن هذه الصناعات سوف تجد أنفسها في مأزق مألوف، وهو التنافس مع بعضها البعض في أسواق محدودة. في الواقع، هذا ما يحدث فعلياً. إن إنتاج الكيماويات، والأسمدة، والألمنيوم الكبير في السعودية يتنافس مع منتجات مماثلة من الكويت، المغرب، الجزائر، وقطر، في أسواق الصين، والولايات المتحدة، وأوروبا، وحتى الهند. هذا النوع من المنافسة غير المجدية لا يجب أن يستمر. مع بعض الرؤية العالمية من قبل القادة في المنطقة، يمكننا أن نرى ترتيبات تعاونية بين دول الجوار التي من شأنها تقليل تكاليف الإنتاج الخاصة بها، وتعظيم مستويات إنتاجها، والسماح للجميع بالتنافس مع المنتجين الرئيسيين في العالم للسلع المتقدمة.
التعاون البيني الإقليمي تاريخياً
كانت هناك محاولات كثيرة من قبل القوى الإقليمية للتعاون في مجال الطاقة. مع ذلك، كما يُبيِّن التاريخ، كثير من هذه المحاولات قد فشل بسبب الخلافات السياسية والصراعات الإقليمية. منذ عقود، بدأ العراق وسوريا التعاون على مد خط أنابيب متبادل المنفعة يربط بين حقول النفط في كركوك في شمال العراق إلى محطة ميناء بانياس السوري على البحر المتوسط.
بإفتتاحه في العام 1952، فقد شكّل خط أنابيب كركوك – بانياس نقطة مهمة في تطور صناعة النفط في العراق. كما قدّم لسوريا نفطاً بأسعار تفضيلية للإستخدام المحلي، مما أتاح لدمشق تصدير إنتاجها من النفط بأسعار السوق المفيدة. هذا الترتيب، مع ذلك، لم يدم طويلاً. في العام 1956، عندما كان لا يزال خط الأنابيب تحت ملكية أنغلو – فرنسية، هاجمته القوات السورية وتضرر جداً وذلك رداً على الغزو البريطاني – الفرنسي لشبه جزيرة سيناء، وكذلك قبول العراق في حلف بغداد. وعلى الرغم من أنه عاد إلى العمل بعد ذلك بوقت قصير، فإن عملياته عادت وتوقفت مرة أخرى في العام 1972 بسبب خلافات جمركية، الأمر الذي أقفل العمل وإستخدام خط الانابيب حتى العام 2001. في ذلك الحين إستخدم صدام حسين خط الأنابيب لتجاوز عقوبات الأمم المتحدة المعوّقة للتصدير، وهي ممارسة إنتهت عندما أصبح خط الأنابيب هدفاً للضربات الجوية الأميركية خلال غزو العراق في العام 2003.
إن السبب الذي دفع صدام حسين لبدء جهود متضافرة لتنويع طرق التصدير لمنتوجات بلاده كان رداً على نزاعات عراقية – سورية حول التعرفة في سبعينات وثمانينات القرن الفائت، فضلاً عن المخاوف الأمنية للتصدير الناجمة من الحرب بين إيران والعراق. وكانت إحدى هذه المبادرات بناء خط أنابيب عبر السعودية إلى ميناء المعجز على البحر الاحمر قرب ينبع، والمعروف بإسم “عبر الجزيرة العربية”. ومن المفارقات، أن السعوديين قد أغلقوا هذه المحاولة لتصدير النفط رداً على غزو العراق للكويت في العام 1990، مما يظهر مرة أخرى كيف أن المنافسات الجيوسياسية هي أهم من التعاون الإقتصادي. وقد طوّرت السعودية “عبر الجزيرة العربية” وإستخدمته منذ ذلك الحين محلياً. وبالمثل، فإن خط الأنابيب عبر البلاد العربية (المعروف بإسم التابلاين) الذي كان ينقل النفط من المملكة العربية السعودية عبر الأردن ولبنان إلى البحر الأبيض المتوسط، موفّراً الدخل للأردن، وسوريا، ولبنان، والمملكة العربية السعودية منذ العام 1950، تم إغلاقه أيضاً من قبل الرياض رداً على دعم الأردن للعراق بعد الغزو الأخير للكويت. بإعتراف الجميع، أصبح “التابلاين” على نحو متزايد غير مجدٍ إقتصادياً إبتداء من العام 1975، ويرجع ذلك جزئياً إلى نمو الناقلات التجارية الضخمة، ولكن أيضاً بسبب النزاعات حول رسوم العبور التي أثارها كل من سوريا ولبنان.
التعاون الإقليمي البيني الحالي
في الوقت الحاضر، مع وجود هذه الخلفية المتقلّبة في مجال التعاون فإن عدداً من مشاريع الطاقة الإقليمية يُبيِّن مراحل متفاوتة من النجاح والفشل. إن أفضل مثال على النجاح بين هذه المحاولات كان مشروع غاز دولفين الذي نشأت فكرته في العام 1999، وبدأ العمل في العام 2007. ويشمل هذا المشروع نقل الغاز الطبيعي من حقل الشمال القطري في رأس لفان إلى دولة الإمارات وسلطنة عُمان. إن خط أنابيب دولفين الذي كلّف أكثر من 7 مليارات دولار ويتمتع بقدرة تصديرية تبلغ 3.2 مليارات قدم مكعبة قياسية في اليوم، هو أول مشروع للغاز في الخليج عابر للحدود. ومع ذلك، فقد تم تأجيل المشروع لسنوات عدة بسبب المعارضة الصامدة من المملكة العربية السعودية. وإستندت الإعتراضات السعودية على حقيقة أن خط الأنابيب سوف يجتاز المياه الإقليمية السعودية، وهو إدعاء رفضته أبو ظبي. إن النزاع الحدودي عند تقاطع قطر، المملكة العربية السعودية، والإمارات لم تتم تسويته، وعلى الرغم من أن الرياض سمحت أخيراً المضي قدماً في المشروع، فقد فعلت ذلك على مضض، ويمكنها بالتالي إحياء المشاكل دائماً. حتى بين الامارات وقطر، فإن السعر الذي تفاوض عليه الطرفان منذ سنوات عديدة يخضع للكثير من المشاحنات. ينص العقد على أن تقبض الدوحة 1,4 دولار لكل وحدة حرارية بريطانية، وهو سعر يُعتبر أقل بكثير من العائد الصافي المُعتاد (6 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية) الذي تحصل عليه قطر من صادراتها من الغاز الطبيعي المُسال إلى الشرق الأقصى.
بعد إنهيار أسعار الطاقة في منتصف العام 2014، صار العائد الصافي لقطر على مبيعاتها في الشرق الأقصى أقل بكثير اليوم، وربما أقل من 4 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية. وكان من الممكن توسيع قدرة مشروع دولفين إلى حد كبير لو إتفق الطرفان على سعر عادل. يدرك القطريون أن الامارات تصدّر كمياتها من الغاز الطبيعي المُسال بالأسعار العالمية، والتي وصلت إلى 18 دولاراً لكل وحدة حرارية بريطانية إلى اليابان في 2010، في حين كانت تستورد الغاز عبر خط الأنابيب من قطر بالمعدل المذكور أعلاه 1،4 دولار لكل وحدة حرارية بريطانية. عندما يمكن لكلا الطرفين الجلوس على الطاولة مع وجهات نظر واقعية بالنسبة إلى الأسعار، ربما يمكن عندها التوصل إلى حل وسط. في هذه الأثناء، تنفق الامارات مبالغ طائلة على تطوير تشكيلات للغاز المحكم أو الضيّق، والذي قد يكلف ما يصل الى 6 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية من خلال مشروع مشترك مع شركة “أوكسيدنتال بتروليوم”، ويمكن أن يأتي وقت حيث تكون مستعدة لإستيراد الغاز من إيران.
من ناحية أخرى، يُبرهن خط أنابيب المغرب العربي – أوروبا كذلك على صعوبة التعاون بين بلدان المنطقة. في حين يتم إستخدام خط الأنابيب في الغالب لنقل الغاز الطبيعي الجزائري إلى إسبانيا والبرتغال، فإن جزءاً منه يمر عبر المغرب، وبالتالي يجلب جانباً من التعاون الإقليمي إلى المنطقة. وعلى الرغم من أن خط الأنابيب قد نوقش على مدى عقود، فقد أعاق تطوره الجمود السياسي بين الجزائر والرباط بسبب النزاع في الصحراء، ولم يصبح ممكناً إستخدام خط الأنابيب إلّا حين تم توقيع الإتفاق الدولي الذي رعته الأمم المتحدة في 1988 والذي خفف التوترات. بإعتراف الجميع، لم يتم حل الصراع حتى الآن بشكل كامل، ولكن خط الأنابيب وفّر نقطة إنطلاق للتعاون بين الجزائر والمغرب، وحتى أنه قد أسفر عن بيع محدود من الغاز الجزائري لمحطات توليد الطاقة في المغرب من طريق خط الأنابيب. وهذه العلاقة الناشئة في مجال الطاقة قد تعمل كمثال على الفرص المستقبلية لتعاون متبادل المنفعة، وهو مثال سوف يناقشه هذا التقرير بإستفاضة. للأسف، إن العلاقة بين البلدين المغربيين الجارين إنعطفت نحو الأسوأ، والعلاقة المزدهرة وصلت إلى نهاية مسدودة. ولأن الغاز الطبيعي الذي ترسله الجزائر الى إسبانيا يتم نقله بموجب إتفاقات وقروض دولية واسعة، فإن هذه الخلافات لم توقف التدفق. ومع ذلك، تستخدم الجزائر الآن خطوط أنابيب أخرى إلى أوروبا: واحدٌ مباشر إلى إسبانيا وآخر عبر تونس.
كما أن العلاقة المضطربة بين أكراد العراق وبغداد، والأداء غير الجيد ل”خط أنابيب الغاز العربي”، يوفّران أمثلة أخرى للمحاولات المضطربة في المنطقة في مجال التعاون. مع سعي الأكراد إلى مزيد من الحكم الذاتي، وإصرار بغداد على مركزية أقوى، وعائدات الطاقة تغذي موازنات الجانبين، فإن إتفاقاً لتقاسم الأرباح ودّياً على المدى الطويل بالنسبة إلى موارد الطاقة العراقية يبدو إلى حد كبير غير محتمل. بشكل معاكس، في حالة “خط أنابيب الغاز العربي”، الذي ينقل الغاز الطبيعي المصري إلى الأردن وسوريا وإسرائيل ولبنان، وحتى بالتعاون مع تركيا والعراق، فإن المسألة لا تتعلق بالعلاقات الجيوسياسية، ولكن بالشؤون الداخلية الخاصة في مصر. إن دعم الطاقة الذي يتحدّى المنطق في مصر، والنقص الداخلي الخطير للغاز الطبيعي، إلى جانب الإستهداف المستمر لخط الأنابيب من قبل مسلحين، أدت مجتمعة إلى إقفال عمليات هذا الخط. وعلاوة على ذلك، على الرغم من إكتشاف الغاز الهائل أخيراً في مصر في حقل “زهر”، فإنه لا يزال من المشكوك فيه أن هذا البلد العربي الشمال أفريقي سيستأنف تصدير الغاز الطبيعي في أي وقت قريب. بالإضافة إلى هذه الأمثلة، فقد تمّ إقتراح العديد من المشاريع الجارية الأخرى، بما في ذلك خط أنابيب الصداقة بين إيران والعراق وسوريا، وخط أنابيب قطر – تركيا المنافس، الذي من شأنه أن يعمل من خلال دول عديدة في الخليج والمشرق العربي. ولم يُبصر المشروعان إلى حد الآن النور بسبب الحواجز والعوائق المالية والجيوسياسية.
التجارة الإقليمية البينية وتداعياتها المحلية
بالنظر إلى حجم تجارة الطاقة الدولية، فإن حجم التعاون في مجال الطاقة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضئيل للغاية. إن تطوراً طبيعياً للتجارة حصل بين الأسواق التي تحتاج إلى الطاقة، ولا سيما في العالم الصناعي، وتلك القادرة على إنتاجها في الشرق الأوسط. وهذه نمت إلى طرق متقدمة جداً لكنها لم تُطوَّر. على وجه الخصوص، تداولت دول الخليج وشمال افريقيا النفط مقابل السلع مع أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأقصى منذ خمسينات القرن الفائت. ولم تكن هناك جهود لتطوير الأسواق في منطقة الشرق الأوسط، في جانب كبير منه بسبب عدم وجود أشياء كثيرة للتبادل. كانت السعودية تتطلع إلى التحديث من أجل البدء في توفير مستويات معيشة مماثلة لمواطنيها لتلك التي تتمتع بها أوروبا والولايات المتحدة. للقيام بذلك فقد كانت بحاجة إلى السيارات ومكيّفات الهواء وأجهزة التلفاز والأدوات والآلات بجميع أنواعها، والتي لم يكن من الممكن العثور عليها في بلدان الشرق الأوسط. بالتأكيد في سبعينات القرن الفائت، سعى كلٌّ من العراق وسوريا، في ظل حكم حزب “البعث”، إلى تطوير صناعات السلع الإستهلاكية. كان العراق في سبعينات القرن الفائت ينتج أجهزة تلفزيون وغسالات وسلعاً منزلية أخرى لأسواقه، وأغلق حدوده على الواردات لتشجيع الإنتاج المحلي. وكانت خلال هذه الفترة بنت القيادة البعثية في العراق مجمّعات صناعية ثقيلة مثل مجمع البتروكيماويات في البصرة ومصنع الحديد والصلب في خور الزبير. وقد حاولت بغداد بيع العديد من منتجاتها الإستهلاكية إلى الدول المجاورة من خلال المعارض التي أُقيمت بين وقت وآخر في البحرين أو دبي.
مع ذلك، كانت نوعية هذه المنتجات سيئة للغاية، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال منافسة المنتجات الأكثر تطوراً والأفضل تصميماً الآتية من اليابان والغرب، أو البضائع الصينية. وبالتالي، ظلت التبادلات بين دول الشرق الأوسط في الغالب معدومة. وعلاوة على ذلك، فقد رُفِضت المنتجات العراقية والسورية، التي تم صنعها ونمت وفقاً لنماذج سوفياتية في مجال التوزيع والتصنيع، ولم تلقَ قبولاً حتى من قبل العراقيين والسوريين أنفسهم. في نهاية المطاف، أغلقت المصانع المحلية أبوابها وفتحت الحدود ببطء للمنتجات الشرقية والغربية، ولكن مع تعريفات مهمة للحفاظ على بعض الدخل للدولة. في العراق، حفّز هذا التحوّل بعيداً من الإنتاج المحلي أيضاً إلى الإنزلاق الى حرب مع إيران. من ناحية أخرى، فإن دول الخليج لم تغلق حدودها أمام المنتجات الخارجية. في حين كانت هناك جهود لتطوير الصناعات التحويلية في منطقة الخليج، ولا سيما في الامارات والمملكة العربية السعودية، فإن نموذج التنمية كان مختلفاً تماماً عن النمط السوفياتي الذي وُجِد في العراق. لقد وفّرت دول الخليج، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، حوافز كبيرة للشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص لتطوير الصناعة بإستخدام التكنولوجيات الغربية واليابانية. وقد شجعت كثيراً المشاريع المشتركة. على سبيل المثال، في أوائل ثمانينات القرن الفائت، بدأت شركة “سابك” إنشاء قواعد تصنيع من خلال 11 مشروعاً مشتركاً مع أمثال “سوميتومو” و”ميتسوبيشي”. وصُنّعت منتجاتها وفق أعلى المعايير وبيعت في البداية من خلال الشركاء الأجانب في الخارج.
بالنسبة إلى إقتصاديات التنمية، فقد إتبعت دول الخليج نموذج “النمو الذي تقوده الصادرات” الذي إستفاد من المزايا النسبية الطبيعية، في المقام الأول من المنتجات المُكرَّرة، بدلاً من نموذج “إحلال الواردات” الذي يعمل في سوريا والعراق. اليوم، تُعتبر “سابك” من بين أكبر الشركات البتروكيماوية في العالم. لقد تعلّمت أو إشترت التقنيات من شركائها الأجانب، وأنشأت مراكز البحوث الخاصة بها، وتتقدّم للحصول على براءات إختراعات خاصة بها، وكل هذا يحدث في حين لا تزال تعمل مع الشركات الغربية واليابانية على التكنولوجيا التي عليها أن تتعلمها وتتقن إستخدامها. وقد أدّى هذا النهج بالشركة السعودية لكي تصبح ثاني أكبر شركة كيماويات في العالم. من المسلم به أن نمو “سابك” ليس له علاقة مع البلدان الأخرى في الشرق الأوسط. وبدلاً من ذلك فإن الشركة إتبعت نموذجاً للتجارة البحتة بين الشمال والجنوب، أو بين الشرق والغرب، بدلاً من الجنوب والجنوب الذي يشمل التعاون الإقليمي، والذي كان من المحتمل أن يبثّ نتائج مفيدة للمملكة العربية السعودية وجيرانها. وعلى المنوال عينه، إن تطوير الإقتصاد الاماراتي، وخصوصاً في في دبي، موجه أساساً نحو الشرق الأقصى وأوروبا وأفريقيا. ميناء جبل علي، وهو جزء أساسي من إقتصاد دبي الذي نما إلى ثالث أكبر ميناء للحاويات في العالم، يتلقى بضائع لا تعد ولا تحصى حيث يتم تحويلها وتخزينها لإعادة توزيعها، أو إعادة تصديرها.
إلى حد ما، مع ذلك، هناك عنصر شرق أوسطي لهذا التبادل. العديد من الشركات العالمية، مثل كرايسلر، وجنرال موتورز، وسوني، تجلب حاويات عبر ميناء جبل علي وتفرّغها في مستودعات ضخمة في منطقة التجارة الحرة في جبل علي. وبعد ذلك تعيد تصدير قطع الغيار والمنتجات في دفعات وشحنات صغيرة براً أو جواً إلى دول أخرى في المنطقة. في بعض الحالات، تقوم الشركات بتصنيع البضائع في جبل علي للتصدير لدول مثل باكستان أو إيران. وهذا يسمح للشركات الإستفادة من العمالة الأجنبية المنخفضة التكلفة في دبي، والكثير منها يأتي من الهند أو باكستان، بدلاً من القيام بتصنيعها بشكل مباشر في شبه القارة الهندية. هذه الصادرات تمنح عندها الشركات الحق قانونياً بإخراج النقد الأجنبي من باكستان أو إيران، وهي ممارسة التي لولاها ستكون محدودة بسبب ضوابط رأس المال الصارمة في كثير من الأحيان. مع ذلك، لا يبدو أن هذه الترتيبات مؤهلة لكي توضع في خانة التعاون في الشرق الأوسط. يتم تصنيع البضائع بإستخدام مواد خام مستوردة أو منتجات نصف مصنعة، ومن ثم يتم تجميعها من قبل العمالة الوافدة، وأخيراً تُصدَّر؛ ومع ذلك، فإن المحتوى المحلي هو في حده الأدنى. علاوة على ذلك، في الحالة الباكستانية، فإن الممارسة هي أكثر من جهد منظم من قبل التجار لتجاوز النظم والقوانين التجارية والمالية الخانقة في باكستان. حيث أن هذا النمط من التجارة الذي ليست له فائدة تُذكر بالنسبة إلى باكستان أو إيران، تستفيد منه دبي بشكل كبير. إن قطاعها المالي يتلقى الأموال من الشركات التي تستأجر المكاتب والمخازن والمنازل. وبالمثل، يبيع تجارها السيارات، والأثاث، وجميع أنواع الخدمات المتطورة للصناعات الأجنبية وموظفيها. وفقاً لذلك، فإنه ليس تبادلاً مربحاً للطرفين بشكل صافٍ. بدلاً من ذلك، هناك في نهاية المطاف تحويل الأموال من باكستان وإيران إلى دبي، مما يؤدي إلى خسارة صافية لهذين البلدين، وربحاً صافياً للإمارة الخليجية. واحدٌ من الجهود التعاونية المُربحة بشكل صافٍ الذي لديه القدرة على التطوّر بين دول الخليج وبقية دول الشرق الأوسط العربي كان الجهد للإستفادة من الأيدي العاملة الواسعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتطوير الخدمات والصناعات في منطقة الخليج. في الواقع، خلال إحدى الفترات كان هناك أكثر من مليون عامل مصري في العراق في عهد صدام حسين، معظمهم في الزراعة والبناء. وعندما وقفت القاهرة ضد بغداد في حرب الخليج، فإن هؤلاء العمال المصريين، الذين كانوا ساهموا إلى حد كبير في التنمية الزراعية في العراق وتزويده بالخدمات والمهارات الأساسية عندما كان العراق راسخاً في الحرب، تمت معاملتهم بلا رحمة، وغالبيتهم رُحّلوا من دون الحصول على مدخراتهم أو ممتلكاتهم. في حين أن هناك حتى يومنا هذا عدداً لا بأس به من المصريين والمغاربة في مختلف الصناعات الخدمية العراقية، فإن عدم القدرة على الإستفادة بشكل كامل من هذا التجمع من العمالة العربية يُظهر مدى سهولة العوامل السياسية الإقليمية على تعويق وتعثّر المساعي الإقتصادية المحتملة. في الواقع، في حين أن العمال العرب هيمنوا في البداية على عدد السكان الوافدين، فإن معظم العمالة الوافدة في الخليج يأتي حالياً من جنوب أو جنوب شرق آسيا. وكان هذا التحول سريعاً ودراماتيكياً. فيما كان العرب يمثلون 72 في المئة من السكان الوافدين إلى منطقة الخليج في العام 1975، فإنه بحلول العام 1985 صارت نسبة القوى العاملة الوافدة إلى الخليج من آسيا 63 في المئة.
وقدّر بحثٌ أجراه المركز المالي الكويتي في العام 2015 أن عدد العمال الوافدين في الخليج بلغ 25 مليوناً، وغالبيتهم أتت من الهند والفليبين وبنغلاديش وباكستان وإندونيسيا وسري لانكا، وجاء جزء أقلي من مصر واليمن. إن هؤلاء العمال والمهندسين والمحاسبين، الذين يشكلون ما يزيد على 75 في المئة من القوى العاملة الخاصة، ينتجون تدفقات من التحويلات الخارجية المالية الكبيرة، التي قدرت ب100 مليار دولار في 2015، إرتفاعاً من 70 مليار دولار في 2012. في حين أنه من المُسلَّم به أن مصر واليمن يحصلان على حصة أقلية من هذه التحويلات، فإن الغالبية العظمى تذهب لإفادة المجتمعات غير العربية. كان يمكن أن يكون النصيب الأكبر من هذه الوظائف والتحويلات مثالاً رئيسياً عن إستفادة منطقة الشرق الأوسط ككل من عائدات النفط. للأسف، كان هناك جهد مُنظَّم من قبل دول الخليج للحد من تدفق المغتربين العرب. وقد نشأت هذه الجهود بسبب العوامل السياسية والإقتصادية والإجتماعية. في العام 1990، رحّلت المملكة العربية السعودية 700،000 يمني بعدما دعمت حكومة صنعاء غزو صدام حسين للكويت. وبالمثل، كما ذكرنا سابقاً، طرد العراق غالبية العمال المصريين في العام 1990. وفي ما يتصل بذلك، كانت الامارات حذرة من المغتربين المصريين منذ أيام جمال عبد الناصر، في البداية بسبب المخاوف من القومية العربية، وأخيراً بسبب التعب والقلق من جماعة “الإخوان المسلمين”.
بدلاً من هذا النفور من التعاون، فإن تبادلاً طبيعياً للمنفعة المتبادلة كان يمكنه أن يؤسّس للترحيب بالعمال العرب في الخليج من أجل مواصلة نشر فوائد ثروة الطاقة في منطقة الخليج، في حين يفي في وقت واحد بإحتياجات العمالة المحلية. بدلاً من ذلك، فقد كانت دول الخليج قلقة من “تمصير” مُحتمل لمجتمعاتها. مع كل هذه العوامل في الإعتبار، فإن مفهوم الإقتصاد الدولي لتطوير الميزة الطبيعية ومقارنتها من أجل تحسين الجميع يبدو أجنبياً في الشرق الأوسط. في الواقع، لقد تم إخضاع مفهوم منظمة التجارة العالمية للتجارة كوسيلة لبسط السيطرة على دولة أخرى أو مجتمع آخر. قد يكون هذا الأمر بقي من موروثات ومُخلّفات الحقبة الإستعمارية، أو قد يكون نتيجة ثانوية من المواقف المشبوهة التي تنتشر بين المجموعات السكانية المختلفة، أو كليهما. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن عوامل متأصلة جداً في روح القيادة والشعب على حد سواء تحدّ من جهود التعاون البيني الإقليمي. وإذا إستمرت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العمل على النحو المعتاد، فإن ثروة القلّة سوف تزيد وتستمر في النمو على أساس التبادل بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب المذكور أعلاه. وستبقى بالتالي الروابط البينية منخفضة والمنافع المشتركة للتجارة الدولية على المستوى الإقليمي لن تتحقق.
إن دولاً مثل مصر أو سوريا، عندما تعيش في سلام، سوف تستمر في التنمية، ولكنها ستظل عالقة وغارقة بلا أمل في وضع العالم الثالث، في حين أن دول الخليج وصلت أو ستصل إلى مستويات على قدم المساواة، أو أعلى، مع المعايير الغربية.
إمكانية التعاون في المستقبل
يمكن للمرء أن لا يتوقع أن يغيّر الناس مواقفهم بين عشية وضحاها. ومع ذلك، فإنه من الممكن التوقع أنه بإمكانهم رؤية فوائد التنمية الإقتصادية الحديثة. إذا كانت هناك إمكانية لتعزيز التبادل من دون “أمتعة” ومتاعب سياسية وعرقية أو طائفية، فإن مزايا التبادل المُربِحة والمفيدة للجميع قد تتطور. إن الثمار المتدلّية من شجرة التعاون، والتي يمكن أن تنشأ في المستقبل القريب وتوفّر فوائد خالية من السياسة لجميع الأطراف المعنية، تبدو قليلة ومتباعدة في ما بينها. ومع ذلك، يبدو أن هناك ثلاثة مجالات للتعاون في مجال الطاقة التي يمكنها تحقيق أقصى قدر من المنافع لجميع الأطراف:
1. إنشاء تبادل تجاري وصناعي بين المغرب والجزائر في مجالات الغاز الطبيعي والفوسفات والأسمدة المتقدمة، ومختلف المنتجات النهائية؛
2. إستثمارات صناعية وتجارية في دول مجلس التعاون الخليجي، وبالتحديد تبادل الغاز الطبيعي القطري بمنتجات سعودية أو إماراتية؛
3. تبادل التجارة والإستثمارات بين إيران ودول الخليج.
1. المغرب-الجزائر
لعلّ الحالة المغربية – الجزائرية هي المثال الأكثر شناعة لسياسة القوة التي تدمّر الإمكانات الكبيرة لمنطقة. يملك المغرب أكبر إحتياطات من الفوسفات في العالم، وقد طوّر البنية التحتية لتعظيم العائد على هذه الموارد. وقد أنشأ وإعتمد بعضاً من أكثر التقنيات حداثة وتطوراً في العالم لإستخراج وتصنيع الفوسفات. على سبيل المثال، فقد طوّر ميناء الجرف الأصفر، الذي يستقبل ويعالج الفوسفات من مناجم خريبكة على بعد نحو 95 ميلاً. في الماضي، كان ينبغي تنظيف الفوسفات، وتحميله على القطارات، ونقله إلى الجرف الأصفر أو الدار البيضاء. وعندما يصل إلى هناك، يمكن تصديره فقط كحجر الفوسفات بسعر منخفض، ليتم تكريره إلى أسمدة صالحة للإستعمال في بلدان أخرى. اليوم، في ميناء الجرف الأصفر، يمكن أن يُحوَّل حجر الفوسفات النظيف إلى حامض الفوسفور من خلال إضافة الماء وحامض الكبريت، ومن ثم يُجفّف ويُصدّر كحامض الفوسفور أو معالجته أكثر بإضافة الأمونيا إلى ثنائي الفوسفات –الأمونيوم (ديامونيوم الفوسفات)، وهو منتج أكثر قيمة بكثير. ومع ذلك، فإن تكلفة النقل وكمية المياه اللازمة للإنتاج تقلّل هامش الربح للمغاربة بشكل كبير. وللتقليل من هذه التكاليف، صمم “المكتب الشريف للفوسفاط”، شركة الفوسفات المغربية الرسمية، وبنى خط أنابيب من خريبكة إلى الجرف الأصفر، الذي ينقل الآن طين الفوسفات بما يقرب من واحد على عشرة من التكلفة ويوفر كميات هائلة من المياه، في مناخ جاف جداً. علاوة على ذلك، أنشأ المكتب منطقة صناعية في الجرف الأصفر لجذب المستثمرين الأجانب لتصدير “ديانوميوم الفوسفات” إلى بلدانهم. ويصنع “المكتب الشريف للفوسفاط” أيضاً كمياته الخاصة من “ديانوميوم الفوسفات” للتصدير أساساً إلى أميركا الجنوبية وأوروبا.
مع ذلك، فإن “المكتب الشريف للفوسفاط” ليس منافساً بالقدر الذي ينبغي عليه أن يكون. يتطلب إنتاج حامض الفوسفور وال”ديانوميوم فوسفات” كميات كبيرة من الكبريت والأمونيا. معظم الكبريت الذي يُنتج اليوم هو ناتج ثانوي من إستخراج النفط الخام، ويُصنع الأمونيا مع غاز الميثان من الغاز الطبيعي. يشتري “المكتب الشريف للفوسفاط” حالياً هذين المُنتجَين من بلدان بعيدة وواسعة، بما في ذلك من المملكة العربية السعودية، بأسعار دولية ومع تكاليف نقل كبيرة، حيث بدوره يحرق إيرادات محتملة. إن الفرصة الضائعة للتعاون بين بلدان المنطقة تنشأ عندما يدرك المرء أن الجزائر، جارة المغرب، هي واحدة من أكبر الدول المنتجة في العالم للكبريت والأمونيا. مع ذلك، لا المملكة المغربية ولا الجزائر ترغب في التجارة أو الإستثمار في صناعات بعضهما البعض. لو كانت كل من الجزائر والرباط تقبل العمل معاً، لكان بالإمكان أن يؤدي ذلك إلى إنتاج أسمدة بأرخص الأسعار في العالم. إن مشروعاً مشتركاً بسيطاً في الجرف الأصفر يمكنه أن يحصل على الغاز مباشرة من “حاسي الرمل” في الصحراء ويُحوّل إلى أمونيا. بالطريقة عينها، يمكن تسليم الكبريت من الجزائر. في المقابل، تستطيع الجزائر أن تكون مستثمراً في القيمة المضافة للصناعة التحويلية من النفط والغاز، وبالتالي السماح لكلا البلدين بزيادة الإيرادات والتنويع. إن البلدين سوف يستفيدان بشكل لا يمكن إنكاره إلى حد كبير.
حتى أنه يمكن للمرء أن يتصوّر أو يتخيّل بأن مشكلة الشعب الصحراوي، ومعظمه عاش في مخيمات اللاجئين منذ أواخر سبعينات القرن الفائت نتيجة لحرب الصحراء الغربية، يمكن حلها بالطريقة عينها. لدى الصحراء المغربية مناجم الفوسفات، حيث يرسل إنتاجها إلى مدينة العيون، عاصمة الإقليم ومركز الميناء الوحيد في القطاع. وقد إستثمرت الرباط القليل في تطوير هذه الموارد، والميناء قديم وغير فعّال. ويتم نقل الفوسفات على بعد 60 ميلاً بواسطة حزام ناقل، ويُنظَّف بإستخدام مياه البحر، وهو غير مصنوع كمنتجات أكثر ربحية من حامض الفوسفور و”ديانوميوم الفوسفات”. هنا مرة أخرى، توفّر الموارد الجزائرية حلاً إقتصادياً مُحتملاً. إن خزانات الغاز في الجزائر، هي أقرب إلى العيون مما هو عليه الجرف الأصفر. وهذا يُقدم إمكانية مشروع مشترك جزائري-مغربي آخر لتطوير بنية تحتية حديثة للفوسفات لمصلحة كلا البلدين وكذلك لفائدة الشعب الصحراوي. وقد لا يحدث هذا حتى تتم تسوية وضع الإقليم بالكامل بما يرضي جميع الأطراف. ومع ذلك، فإنه ليس من غير المعقول بأن التعاون في القضايا الاقتصادية والتعدين البحت يمكنه أن يضع الأساس لتسوية تعود بالفائدة على جميع الأطراف المعنية.
2. قطر – المملكة العربية السعودية
مثال آخر على التعاون الذي يمكن أن يحدث بتكلفة منخفضة نسبياً هو إحتمال بيع قطر لغازها الطبيعي إلى المملكة العربية السعودية. إن المملكة تحتاج إلى الغاز الطبيعي، وذلك أساساً بسبب نموها الإقتصادي المدهش على مدى السنوات ال40 الماضية الذي يجفف تدريجاً مواردها. تحتاج المملكة العربية السعودية إلى كميات هائلة من الغاز الطبيعي لتحلية المياه لسكانها البالغ عددهم 32 مليون نسمة، وتوليد الكهرباء لمدنها المتطورة على نحو متزايد، وإستعماله كمادة وسيطة لصناعاتها الكيماوية والأسمدة، وصناعات المعادن. وبإعتراف الجميع، لدى الرياض موارد كبيرة من الغاز الطبيعي، الذي يُستخرج من النفط الخام الذي تنتجه، والذي، على عكس الدول الأخرى في المنطقة، قررت عدم تصديره من أجل تشجيع التصنيع المحلي. وعرفت هذه السياسة الصناعية نجاحاً كبيراً، ولكن عدد السكان إرتفع بشكل كبير، لدرجة أن الطلب على الغاز الطبيعي نما وتجاوز الإمدادات السعودية الكبيرة. في محاولة لتخفيف هذا العجز بالنسبة إلى الغاز الطبيعي، إستثمرت أرامكو السعودية، شركة النفط الوطنية في المملكة، قدراً كبيراً من الجهد والمال لتطوير مصادر جديدة للغاز الطبيعي لا تعتمد على إستخراج النفط الخام (ويسمى أيضاً “الغاز الجاف”). وقد نجحت في إيجاد ودائع كبيرة من “الغاز الطبيعي الجاف”، ولكن هذا الغاز الطبيعي الجديد هو حامض وغني بكبريت الهيدروجين، مما يجعله خطيراً جداً ومكلفاً للإنتاج.
هناك غاز طبيعي جاف آخر متوفّر كالغاز الصخري، خصوصاً في الجزء الشمالي من البلاد بالقرب من مناجم الفوسفات التي إفتتحت حديثاً في الجلاميد ووعد الشمال. ومع ذلك، فإن الغاز الصخري هو أيضاً مُكلِف الإنتاج ويتطلب كميات كبيرة من المياه، والتي هي بالفعل في نقص في المملكة، وهي متاحة فقط من آبار متحجرة غير قابلة للتجديد. ومن الصعب معرفة ما هي تكلفة إستخراج وإنتاج هذا الغاز الطبيعي الحامض، ولكن يمكن أن يكون مرتفعاً في حدود 6 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية حسب بعض التقديرات. وفقاً لذلك، حتى مع إرتفاع السعر المحلي للغاز في المملكة من 0.75 دولار إلى 1.25 دولار لكل وحدة حرارية بريطانية في أواخر كانون الاول (ديسمبر) 2015، فإن إستخراج الغاز الطبيعي الحامض ليس صعباً فحسب، بل أيضاً من الناحية المالية له نتائج عكسية. مرة أخرى، إن نظرة سريعة على الدول المجاورة للسعودية تسلّط الضوء على فرصة ضائعة كبيرة للتعاون. بالقرب من المناطق الصناعية في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية يقع حقل القبة الشمالية القطري للغاز الطبيعي، وهو الأكبر في العالم. وسيكون من الكفاءة البارزة لدولة قطر والمملكة العربية السعودية بناء خط أنابيب قصير من القبة الشمالية إلى الجبيل ورأس الخير، حيث تتم معالجة صخور الفوسفات.
إن أبرز الثمار المُحتمَلة لهذا الخيار تعنونت بضائقة مالية شديدة تشعر بها قطر في الوقت الحاضر. بينما تملك الدوحة قدرة هائلة لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي السائل إلى جميع أنحاء العالم، فإنها تفعل ذلك بسعر مرتبط بسعر النفط الخام، وهو السعر الذي عرف غرقاً لأكثر من سنة. ونتيجة لذلك، في هذا الوقت، فإن قطر تربح قليلاً جداً من الغاز الطبيعي الذي تصدره، بما في ذلك الغاز الطبيعي المسال المُربِح سابقاً الذي ترسله إلى اليابان وكوريا الجنوبية. إعتباراً من مطلع العام 2016، فإن سعر الغاز الطبيعي المُسال المصدّر إلى اليابان بلغ حوالي 9 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية، والذي، بعد حساب كافة تكاليف قطر – في شكل رئيسي النقل، والصناعات التحويلية، والمستحقات للشركاء — أنتج ربحاً صافياً بلغ 4 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية فقط. ويُعتبر هذا إنخفاضاً حاداً في الأسعار التي حامت حول 16 دولاراً لكل وحدة حرارية بريطانية على مدى السنوات الخمس الماضية، والتي كانت بدورها قدمت رقمين من الأرباح الصافية العائدة. وينم عن الكثير إعلان صندوق النقد الدولي عن أن عائدات قطر الإجمالية من صادرات الغاز الطبيعي المُسال تراجعت أكثر من 25 في المئة منذ 2011، ومع إعتبار صادرات النفط والغاز المصدر الرئيسي للدخل في دولة قطر، فإنه ليس من المستغرب أن الإمارة الخليجية الصغيرة إضطرت إلى الإعلان عن عجز مالي للمرة الأولى منذ 15 عاماً. ويبدو أن التوصل إلى صفقة بين حكومتي قطر والسعودية هو الحل الأمثل. يمكن للرياض شراء كميات وافرة من الغاز الطبيعي من الدوحة بسعر 3 دولارات لكل وحدة حرارية بريطانية، وبالتالي خفض الحاجة إلى تطوير إحتياطات مكلفة للغاية من الغاز الحامض.
بالنسبة إلى دولة قطر، هذا من شأنه أن يغنيها عن الحاجة إلى تسييل الغاز الطبيعي، وبدوره تحقيق وفورات دولارين أو أكثر لكل وحدة حرارية بريطانية، والحدّ من متطلبات الصيانة الضخمة لمصانع تسييل الغاز الطبيعي، وتوفير مصدر ثابت للطلب على منتجاتها. في المقابل، يمكن أن تستثمر في العديد من الشركات الكيميائية السعودية. وهذا من شأنه خلق المزيد من الطلب على الغاز الطبيعي وفي الوقت نفسه المساعدة على تطوير الشركات الصناعية السعودية المزدهرة. إن حدوداً مفتوحة حقاً للمنتجات والإستثمارات في دول مجلس التعاون الخليجي يمكن أن تحفز نمواً كبيراً لكلا البلدين، في حين يجعلهما أيضاً أقل إعتماداً على تقلبات أسواق السلع العالمية. وتماماً مثل التعاون بين المغرب والجزائر الذي يمكن أن يجعل البلدين من القوى الاقتصادية من طريق رسملة المزايا الطبيعية لكل منهما، فإن التعاون القطري – السعودي يمكن أن يجعل كلا البلدين تنافسيين مع عمالقة الكيماويات مثل شركة “بادن أنيلين أند صودا فاكتوري” أو (B.A.S.F) في ألمانيا أو شركة “داو للكيماويات” في الولايات المتحدة. ومع ذلك، يمكن لهذا الأمر بالطبع أن يحدث إذا تم حل القضايا الأساسية السيادية. من ناحية أخرى، يمكن للتعاون أن يؤدي سريعاً إلى بناء الثقة بين الطرفين، وبالتالي تحقيق ما فشلت أن تفعله آلاف الاجتماعات والوعود في مجلس التعاون الخليجي.
3. مجلس التعاون الخليجي – إيران
لعلّ التحدّي الأصعب يكمن في تطوير التعاون بين دول الخليج العربي وإيران. إن عبء الدم الفاسد الذي يجري في عروق العلاقات السعودية – الإيرانية من الصعب تجاوزه والتغلب عليه. تخشى كلٌّ من الدولتين العزلة، وحتى إعلان خطة العمل المشتركة الشاملة التي نتجت من الإتفاق النووي، كان الإيرانيون يشعرون بالعزلة وبأنهم محاطون بالأعداء الذين يسعون إلى إطاحة نظامهم. مع ذلك، إعتباراً من بداية كانون الأول (يناير) 2016، يبدو أن الحذاء قد وجد نفسه في القدم الأخرى. إن المملكة العربية السعودية تتحدث وتفعل كما لو كانت معزولة وتُرِكت وحدها في مواجهة الذئاب الآتية من طهران في مختلف أنحاء الخليج. ربما يمكن تخفيف التصوّر السعودي الحالي من التهديد الإيراني، والشعور المشابه الذي عرفته إيران سابقاً، من خلال التعاون الإقتصادي. لو أن كل القوى الخليجية عملت معاً لتنمية إقتصاداتها، فإنها يمكنها أن تكون الآن قوىً صناعية كبرى على نطاق العالم. وبالتوازي يمكن الإستخلاص من المواجهات الدامية للغاية بين فرنسا وألمانيا في القرنين ال19 وال20 والتي انتهت على ما يبدو بإتفاق على تبادل الفحم والصلب. وقد تطوّرت هذه الاتفاقية تدريجاً إلى الإتحاد الأوروبي، وأثرت أو أغنت بشكل كبير فرنسا وألمانيا والبلدان المحيطة بهما. مما لا شك فيه بعد إراقة الدماء في الحرب العالمية الثانية، إتخذت القيادة السياسية الفرنسية والألمانية قراراً بإستخدام التعاون الاقتصادي لجلب الناس معاً وتقريبهم إلى بعضهم البعض. يمكن أن يكون الأمر مماثلاً في منطقة الخليج. لدى إيران ودول الخليج الكثير مما يمكن التعاون في مجاله. على سبيل المثال، تماماً كما يمكن لقطر أن تبيع الغاز إلى المملكة العربية السعودية فإن إيران يمكنها أن تبيع الغاز إلى الإمارات، وعُمان، والكويت، والعراق، وحتى المملكة العربية السعودية.
في المقابل، يمكن لدول الخليج أن تستثمر في مرافق التصنيع في إيران، وإستيراد المنتجات الزراعية الفارسية بدلاً من إستيرادها بتكلفة باهظة من بعيد، وبذل جهود مشتركة في بناء مرافق أكثر تقدماً للكيماويات والأسمدة ومعالجة المعادن. وكما تَبيَّن، فإن اللائحة الإقتصادية كبيرة ويمكن أن تكون ناجحة، خصوصاً أن الدول الخليجية المجاورة تتمتع بسوق مشتركة لأكثر من 120 مليون مستهلك وهي قريبة من الأسواق الضخمة في جنوب آسيا والشرق الأقصى.
وقد شهدت وعرفت عُمان فعلياً هذه الإمكانيات للتعاون. وهي تستعد لتوقيع إتفاق مع طهران لإستيراد الغاز الطبيعي الإيراني للتنمية الصناعية في صحار ومناطق أخرى من البلاد. وهذا يتطلب بعض الإستثمارات الرئيسية في خط أنابيب تحت الماء من الساحل الإيراني إلى السلطنة، والذي، في حين أنه صعب من الناحية التقنية، فهو ليس بأي حال مستحيلاً. وعلى المنوال عينه، يمكن للإمارات بسهولة أيضاً أن تبدأ نسبياً إستيراد الغاز الطبيعي من الجمهورية الإسلامية. في الواقع، إن خطوط الأنابيب من إيران إلى الحدود البحرية في إمارة الشارقة، ومن الحدود البحرية إلى ساحل الشارقة، موجودة بالفعل. كل ذلك يتطلب من الناحية التقنية فقط التحقق وربط الخطوط لبدء التدفق. ومع ذلك، فإن هذه الأمتار القليلة من الوصل تتطلب إرادة سياسية على طرفي خط الأنابيب، التي قد تكون أو لا تكون موجودة، ويُحتمل أن تكون مُعقّدة وفقاً لطبيعة السياسة الداخلية في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث أن إمارة واحدة قد لا تتفق دائماً مع أخرى حول كيفية الإستفادة من التعاون الخارجي.
الإستنتاج
التعاون في مجال الطاقة يعني التعاون في تحديث الإقتصاد، بما في ذلك مشاريع مشتركة في مجال الكيماويات والأسمدة والألومنيوم والمعادن الأخرى. وجميع هذه المنتجات التحويلية تسمح للخليج تقليل وظيفته الأساسية كمجرد مستودع وقود لأوروبا أو الصين. كما أن من شأنه أن يخلق فرص العمل وثروة مستقرة تقوم على إنتاج القيمة المضافة بدلاً من مجرد الإستخراج. ومع ذلك، قد يكون الإستنتاج المحزن أن مثل هذا التعاون لا يمكن أن يحدث إلّا بعد كوارث مماثلة لتلك التي وقعت في 1914-1918 أو 1939-1945 في أوروبا وآسيا: وهي كوارث، ولّدت في نهاية المطاف جذور التعاون، لكنها كلفت عشرات الملايين من الأرواح، ودمّرت البلدان والمجتمعات بأكملها، وإستمرت في ترك بصمتها. هذا النوع من الكوارث ليس ضرورياً. إذا كان الزعماء، الذين يتمتعون بصفات مشابهة لتلك التي كان يتمتع بها الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز أو الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني، لديهم الإرادة لجمع الناس معاً، والإنفصال عن الإيديولوجيات المتطرفة، فإن مجال الإقتصاد والتجارة يوفر فرصة سريعة نسبياً ومفيداً لقيام التعاون. يتمتع الطرفان في الخليج بموارد هائلة من الطاقة التي تتفاوت بما فيه الكفاية لتؤدي إلى التعاون.
السعوديون لديهم النفط الخام ولدى الإيرانيين الغاز الطبيعي. السعوديون لديهم رأس المال والدراية في مجالات الكيماويات، والأسمدة، والمعادن، ولدى الإيرانيين معرفة بمواد كيميائية وأسمدة أخرى وقوة عمل متعلّمة كبيرة. من الواضح أن بعض الأساسيات للتعاون موجود فعلياً. الآن كل ما هو مطلوب هو قادة ذوات رؤية وحسن نية من جميع أنحاء الخليج للتعرف على هذه الموارد التي تتيح هذه الفرصة حقاً. إن إستنتاجات مماثلة يمكن إستخلاصها في باقي دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إن التعاون الإقتصادي المُحتمل المغربي – الجزائري يمكنه تعزيز الإقتصاد في كلا البلدين، وتوظيف جماهير العاطلين من العمل، وجلب الأمل للغز الصحراوي. إن استخداماً أفضل للمهارات المتاحة والعمال من مصر في السوق الخليجية سوف يجلب تحويلات ماسة من الخليج الغني بالنفط إلى الإقتصاد المصري. وإجمالاً، يبدو أن التعاون الاقتصادي بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من شأنه أن يحقق فوائد كبيرة لجميع مواطنيها. ومع ذلك، يتطلب هذا التعاون قادة مع رؤية جريئة واضحة تتجاوز الحواجز الإيديولوجية والتاريخية للتركيز على مستقبل بلدانهم، والشباب الذين هم الثروة الحقيقية للمنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى