ضباب تونسي كثيف حول مقررات حركة “النهضة”
بقلم عبد اللطيف الفراتي*
إنقضى مؤتمر حركة “النهضة” الإسلامية في تونس، وأقفلت أبواب أكبر تظاهرة عرفتها الحياة الحزبية في تلك البلاد قبل وبعد ست سنوات من “الثورة”، والتي صحبتها بهرجة كبيرة وإستدعاء ما لا يقل عن 10 آلاف شخصية لحفل الإفتتاح، الذي أُقيم في ملعب الرياضات المتعددة المُغطّى في ضاحية رادس.
وقد انكفأ 1200 من أعضاء هذه الحركة في اليوم الموالي في ضاحية الحمامات السياحية على أنفسهم في مؤتمر مُغلق وُصف من قبل منظميه بالديموقراطي، وإنتهى إلى إقرار الخط الجديد، الذي قرره له رئيس الحزب راشد الغنوشي، بعد عملية نقد ذاتي صحّية لما إعتبر أخطاء، إرتكبت سواء في فترة ما قبل اليد الحديدية الثقيلة التي نزلت على الحركة من قبل حكومات متعاقبة أو في فترة حكم “نهضوي” للبلاد بين 2011 و2014 سادتها أخطاء كبيرة.
الواضح أن الحزب خرج من المؤتمر، وقد أقرّ ما سبق أن شرع في تنفيذه من فصل السياسي عن الدعوي. الأمر الذي طرح أسئلة عدة: متى يبدأ التنفيذ، وكيف سيكون؟ وهل ستتحوّل الحركة إلى حزب سياسي محض، على غرار الأحزاب المسيحية الديموقراطية في عدد من البلدان الأوروبية، حيث يكون السياسي هو الغالب، والمرجعية المسيحية تكاد تكون غائبة؟ أم أنه سيكون متفرداً بحيث تكون المرجعية الدينية الاسلامية هي الطاغية، وتكون الديموقراطية هي الفرع؟
ومهما يكن، فإن حركة “النهضة” قد شهدت تطوراً، يسميه البعض تقلّباً منذ نشأتها الأولى، من فكر المصري حسن البنا قبل 90 سنة أو تكاد إلى فكر سيد قطب قبل 65 سنة، الذي كفر المجتمع وبشر بأسلمته “بعد أن أصابه الكفر والحياد عن الطريق السوي والمستقيم”، إلى مقولة راشد الغنوشي الشهيرة، من أن التدافع الاجتماعي سيمكّن من نشر الأفكار التي بشّر بها وتغيير نمط المجتمع، وإن كان ما حصل خلال حكم الثلاثي بزعامة “النهضة”، قد حاول “دفع” المجتمع من دون نجاح يُذكر نحو التراجع عن المكتسبات المجتمعية، بحيث إنتهت “النهضة” إلى الإقتناع، بأن تونس التي تجر وراءها قرابة قرنين من الإصلاح من بينها 60 سنة من حكم الفكر البورقيبي وإصلاحاته الإجتماعية العميقة، والمنتسبة إلى المذهب السني المـــالكي الأشعري، عصية على ما كان يُراد لها، نتيجة لما هي عليه من تحرر فكري-إجتماعي لا يقدر أحد عليه، ومن الأفضل التفاعل معه على مجابهته.
الواقع أن مؤتمر “النهضة” لم يستطع، نتيجة التوازنات الداخلية المعقدة، وموروث فكري مزروع في القواعد أكثر من القيادات، أن يقدم على الفصل بين الديني والسياسي، وإكتفى بتقرير الفصل بين السياسي والدعوي، في ضبابية دامسة، لم يحدد ما سيكون في السياسي وما هو برنامجه، وما سيكون في الدعوي وماذا ستكون أدواته، هل في إطار جمعيات أو مؤسسات معينة؟ ولمن ستنتسب؟ وهل ستبقى على الولاء لحزب “النهضة”؟ وهل سيكون الغنوشي زعيماً للإثنين؟ أم أنه سيخصص جهوده للحزب، علّه يظفر شخصياً بمناصب عليا في الدولة، إذا فاز حزبه في الإنتخابات المقبلة، المقررة في 2019، إذا لم يطرأ ما يمكن أن يقلب المعادلات، أو يدفع قبل الأوان لإنتخابات سابقة لأوانها رئاسية أو برلمانية؟
تشير كل الدلائل إلى أن حركة “النهضة”، لم تجرؤ في مؤتمرها العاشر على الإنتقال بإسمها إلى تسمية حزب “النهضة” وبالتالي لم تستطع تحقيق النقلة الكبرى المرتقبة، وأن فصل ما يُسمّى بالسياسي عما يُسمّى بالدعوي ، يمثل مناورة ذكية لإستقطاب جانب من الرأي العام، ضاق ذرعا بما يجري في البلاد، وما ينتابها من أزمات نتيجة ضعف كفاءة حكامها الحاليين، بعدما نسي الناس ضعف وتخبط “النهضة” خلال فترة حكمها في الفترة بين 2011 وبدايات 2014؛ غير أن مختلف إستطلاعات الرأي ما زالت، رغم فشل الحكم الحالي الذي تأخذ منه “النهضة” بطرف وتشارك فيه ضمن رباعي حاكم، تضعها في مرتبة ثانية بعد حزب “نداء تونس” رغم إنفجاره والأزمة الداخلية التي يمر بها.
وتتفق مؤسسات سبر الآراء على أن حركة “النهضة” باقية على نسبة من الناخبين تزيد حتماً على 25 في المئة ولكنها لا تصل بحال إلى 30 في المئة، وهذا لا يؤهلها غالباً للحصول على الموقع الأول في إنتخابات وطنية مُقبلة، الأمر الذي لا يجعلها تُدعى إلى تشكيل الحكومة في حالة بقائها على هذه الحال، كما حصل بعد إنتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2011، وإن كان المراقبون لا يستبعدون أمرين اثنين يمكن أن يحققا المفاجأة:
أولهما أن تتابع السلطة الحالية وقيادتها المتمثلة بحزب “نداء تونس”، مواصلة الفشل في حكمها، وتفتت القوة السياسية التي تعتمد عليها.
وثانيهما أن تتسع رقعة المصوّتين ل”النهضة”، بعد نسيان خيباتها السابقة في الحكم، أو تصديق مقولتها بأنها حزب سياسي مدني، لا يبغي بحال تغيير نمط المجتمع، وهو نمط يسود إعتقاد كبير بأنه لا بديل منه، وأن التبشير بنمط آخر يستند على الدين، لا حظوظ له في تونس كما دلت التجربة قبل 3 أو 4 سنوات خصوصاً في ظل دستور 2014 الذي جاء في ظل وفاق عام، إضطرت “النهضة” الموافقة عليه، والذي وإن لم يصل إلى إقرار الدولة العلمانية، فإنه أقر في فصوله المهمة مبدأ الدولة المدنية وما أسمي بالقيم الكونية.
“النهضة” أبهرت بتنظيم مؤتمرها، وبإنضباط منتسبيها، وبممارساتها الديموقراطية الداخلية، ولكن تركت نوعاً من الحذر، نتيجة إستمرار الزعامة فيها بلا منافسة للغنوشي على مدى وجودها، وهو الرجل الذي عاد إلى سيرة بورقيبة في 1971، فهدد بالانسحاب، إن لم تترك له مسألة تعيين أعضاء المكتب التنفيذي، أكبر جهاز تقرير في الحركة.
وكان بورقيبة لجأ إلى هذا الأمر بالضبط في مؤتمر المنستير في العام 1971 عندما تفرّد بإختيار أعضاء الديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري آنذاك، رافضاً إنتخابهم.
• كاتب وصحافي تونسي مخضرم، رئيس تحرير صحيفة “الصباح” التونسية سابقاً. fouratiab@gmail.com