الليرة اللبنانية تَفقُدُ دَورَها التجاري والمُحاسَبي

العملة اللبنانية: فقدت دورها التجاري والمُحاسَبي.

 

بقلم الدكتور مروان القطب*


تتعدّد أسعار صرف الدولار الاميركي في لبنان الى ثلاثة رئيسة، هي: السعر الرسمي الذي يُستَخدَم كأداةٍ للدعم، وسعر ٣٩٠٠ ليرة لبنانية الذي يُستَخدَم لردّ الودائع بالدولار، وسعر السوق المُوازية او السوق السوداء. إن تعدّد أسعار الصرف أدّى إلى عدم استقرار قيمة العملة الوطنية. والأسئلة التي تفرض نفسها هنا: ألَمّ يُؤثّر ذلك على وظيفة الليرة كوسيط للمبادلة وأداةٍ للقياس المُحاسبي؟ هل حقّق تعدّد اسعار الصرف أهدافه الإقتصادية؟ ما هي الأثار السلبية التي برزت؟ وما هي طرق المعالجة؟

لقد افقد تعدّد أسعار الصرف وظائف الليرة اللبنانية كعملة وطنية من نواحٍ عدة:

أوّلاً – لم تعد الليرة مخزناً للقيمات، نتيجة تعدّد أسعار الصرف وتأرجح سعرها اليومي، وعدم الثقة بثبات سعرها في المستقبل. لم تعد الليرة موضع ثقة، فالتجار يعمدون يومياً الى تحويل حصيلة مبيعاتهم الى الدولار، خشيةً من تدهور قيمة العملة في المستقبل. عدا عن قيام المواطنين العاديين بتحويل مُدّخراتهم إلى الدولار، وهذا الأمر يُفاقِمُ من تدهور قيمة الليرة.

 

ثانياً- لم تعد الليرة وسيطاً أساسياً للمُبادَلة، وإن كانت ما زالت وسيطاً للمبادلة على مستوى الاستهلاك، عندما يعمد المُستهلك الى شراء السلع من تجار التجزئة. إلّا أن ذلك لا يتحقّق في العلاقة بين تجار التجزئة وتجار الجملة، فالتعامل بالدولار هو السائد، وهذا الأمر وإن كان موجوداً قبل الازمة، إلّا أنه ليس بالحجم الموجود حالياً، فثبات قيمة الليرة ووحدة سعر صرفها الذي كان قائماً قبل الأزمة، كان يضمن لتجار الجملة التعامل بالليرة مع تجار التجزئة، أما اليوم فتجري معظم المعاملات بالدولار الأميركي.

 

ثالثاً– فقدت الليرة وظيفتها كأداةٍ للقياس المُحاسَبي، فالعملة الوطنية تُستَخدَم كأداةٍ لقياسِ القيمات، وبالتالي كأداةٍ مُحاسَبية لإعداد الفواتير وقيد العمليات المالية. وعندما تهتزّ قيمة العملة، ويصبح سعرها مُتعدّداً، تفقد هذه الوظيفة وتُسبّب إشكاليات مُتعدّدة، على أكثر من صعيد، ومنها:

 

1-تحديد عملة اعداد الفواتير: الإقتصاد اللبناني اقتصادٌ مُدَولَر نتيجة استيراد معظم السلع التي يحتاج اليها الاقتصاد الوطني من الخارج، وبالتالي فان الفَوتَرة بين التجار تجري بالدولار الاميركي. وبفعل اهتزاز قيمة الليرة، يعمد التجار الى الفَوتَرة الى الزبائن أيضاً بالدولار الاميركي. والإشكالية تكمن أنهم يقبضون من الزبائن على أساس سعر صرف السوق السوداء، أي ما يقارب ٩٠٠٠ ليرة للدولار الواحد، في حين انهم يحتسبون سعر الدولار للإدارة الضريبية على أساس ١٥١٥ ليرة، ما يؤدّي الى خسارة إيرادات من ضريبة الدخل على الخزينة العامة، من هنا جاء إعلام وزير المالية رقم ١١٤ الذي اكد فيه على ان تكون الفَوتَرة بالليرة اللبنانية وفقاً للمادة ٢٥ من قانون حماية المستهلك، أي الفوترة بالقيمة الفعلية التي تدخل الى حساب التاجر، والتي تتم عملياً وفقاً لدولار السوق السوداء وليس السعر الرسمي، وهذا ما أثار حفيظة التجار واعتبروه فرضاً لسعر السوق السوداء من قبل وزارة المالية، في حين تصر وزارة المالية على الفوترة بالليرة اللبنانية، وقيد الإيراد الذي دخل الى حساب التاجر كما تمّ بالفعل.

٢احتساب البيانات الجمركية: إن ثمن البضاعة من الخارج يكون بالعملة الاجنبية، وتُحتَسَب في البيانات الجمركية بالليرة اللبنانية من أجل تحديد الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، ويجري الاحتساب على أساس سعر الصرف الرسمي أي ١٥١٥ ليرة للدولار الواحد، في حين يقوم التاجر باستيفاء ثمن البضائع من المواطن على أساس سعر صرف السوق السوداء والذي يكون ستة اضعاف السعر الرسمي. لذلك يدعو البعض الى اعتماد سعر المنصّة المُحَدَّد من قبل مصرف لبنان أو سعر السوق الموازية لاجراء المعاملات الجمركية، من أجل زيادة إيرادات الخزينة، والحد من استغلال الأوضاع القائمة من قبل العديد من التجار على حساب الخزينة. إلّا أن لهذه الخطوة عواقب وخيمة من الناحية الاجتماعية لأنها ستؤدي الى ارتفاع اسعار السلع في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة.

٣تقييم أصول المصارف: إن السعر الرسمي للدولار الاميركي يسري على العلاقة بين المصارف ومصرف لبنان، وبالتالي فإن تقييم ودائع المصارف لدى المصرف المركزي بالليرة اللبنانية او تقييم شهادات الايداع بالليرة اللبنانية يتم على أساس سعر الصرف الرسمي. وهذا التقييم يتم من أجل تحديد أصول المصارف وخصومها وبيان حقيقة وضعها المالي، وبالتالي فان التقييم على أساس سعر الصرف الرسمي سيؤدي الى تضخيم قيمة الأصول، في حين ان القيمة السوقية الفعلية لها يجب ان تتم وفقاً لسعر السوق وليس السعر الرسمي، ما يعني ان الموازنات العمومية المُعَدَّة من قبل المصارف هي دفترية وليست واقعية، والأرباح التي تظهر لا تعكس حقيقة أداء المصارف.

٤إعداد التقارير والبيانات المالية: تُلزَمُ المؤسسات التجارية باجراء الفَوتَرة بالليرة اللبنانية للزبائن، كما إن مقتضيات إعداد الحساب الضريبي يحمل الشركات على إعداد بيانات مالية بالليرة اللبنانية. الإشكالية التي تبرز تكمن في سعر الصرف اللازم اعتماده لإعداد هذه البيانات. فإذا تمّ اعتماد السعر الرسمي يعني ذلك ان الحسابات غير واقعية، وإنّما هي دفترية، وبالتالي فإن الأرباح التي تبرز ليست هي الفعلية. وهذا الامر لا يعكس حقيقة الأوضاع المالية للمنشآت التجارية، والأرباح التي تُشكّل وعاءً لضريبة الدخل غير صحيحة، مما يؤدي الى هدر حقوق الخزينة. كما أن عدم صحة البيانات المالية سيؤدي الى ارتباكٍ شديد عند الحاجة الى معرفة القيمة الفعلية للمنشآت التجارية، ويُسبب إشكاليات عند حالات الدمج خصوصا في ما خصّ القطاع المصرفي.

إن واقع الليرة اللبنانية صعب، وتعدّد أسعار الصرف المُعتَمَدة، تُشكّل سياسات نقدية غير مدروسة، لم تأخذ بالحسبان عند اتخاذها التداعيات السلبية لها، لقد أدّت إلى تعطيل كل وظائف العملة الوطنية، وحوّلتها الى سياساتٍ للدعم، لم تُحقّق الغاية الإقتصادية منها بفعل التهريب والتلاعب.

أما عن طرق المعالجة فان توحيد أسعار الصرف المُتعَدّدة، مسألة لا بدّ منها، إلّا أن ذلك لا يعني اعتماد سعر السوق الموازية دفعة واحدة، لأن ذلك سيؤدي الى ارتفاع كبير في الاسعار، وسيؤثر سلباً في الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية. لذا لا بدّ من اعتماد سياسات تدريجية وتدخّلية مدروسة، وهذا الامر لن يتحقق إلّا بتوفر تدفقات نقدية بالعملات الأجنبية، ويحتاج الى دعم الصناديق الدولية، والعمل على إرساء الإستقرار السياسي.

* الدكتور مروان القطب هو أكاديمي، باحث وخبير مالي واقتصادي لبناني.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى