لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (38): مُفاضَلَةُ “الإمام” بَينَ العَرَبِ ولبنان!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

عانى الشيعة، على زمنِ الحُكم العُثماني، مرارات الضيق والحرمان، فكان “مشروعُ لبنان الكبير” خَشبةَ خلاصٍ تعلّقوا بها.

غير أنهُ كانَ من بينهم، ولم يكونوا قلّة، مَن استهواهُم “مشروع الدولة العربية” في دمشق، الذي أطلقه الملك فيصل بن الحسين، شريف مكة، قبل الحُكمِ السعودي في الحجاز.

على الرُغمِ من أنه لم يطرأ في “جبل عامل” أيَّ تحسّنٍ لأوضاعِ الشيعة العامة، لا تحت الانتداب، ولا في ظلِّ عَلَمِ الاستقلال، إلّا أنَّ أئمتهم آثروا، بعد موازنة البدائل غير الموثوقة، بقاء الشيعة الجُزء المُنضوي تحت لواء دولة لبنان الكبير.

هذا يُفسِّرُ ظاهرةً ملفتة على الصعيد الشيعي الشعبي، لا سيما في أوساط المثقّفين، في المرحلة الاستقلالية حتى مشارف الحرب الأهلية عام 1975. فمع انتشار الحركات الراديكالية واليسارية، انخرط كثيرون من الشيعة في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني في البداية، مع أنه كان حزبًا محظورًا من الدولة اللبنانية الموالية للغرب في مرحلةِ الحرب الباردة بين واشنطن وحلفائها حول العالم، وبين الاتحاد السوفياتي والحركات الشيوعية الموالية له. كما انضوى قسمٌ منهم في صفوف “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، وفي “حزب البعث العربي الاشتراكي”، كما تأثّرَ بعضهم الآخر بالموجة الناصرية، خصوصًا بعد تأميم قناة السويس، وبلغت ذروتها بعد إعلان الوحدة السورية–المصرية بقيادة جمال عبد الناصر.

كلُّ ذلك، من مُنطَلَقِ وَعيهم لكونهم أحد أعمدة الكيان اللبناني، ولو أنهم مغبونون فيه. وظهرَ ذلك جليًّا عندما تشكّلت في الجنوب حركاتٌ من هذه الأحزاب والنوازع الوطنية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، قبل ظهور المقاومة الإسلامية بقيادة “حزب الله” في ما بعد، من غير إمكانياتٍ تُذكَر سوى الحميَّة الوطنية.

ومع ذلك بقيت الكلمة الفصل في المجتمع الشيعي لكبار رجال الدين، وإن كانت التوجّهات العلمانية بين الشيعة لم تكن قليلة الشأن. وكان كبير أئمتهم، خلال مرحلة الانتداب الفرنسي، السيد عبد الحسين شرف الدين، الذي قاوم الحكم العثماني، ثم الانتداب الفرنسي بعد تفكّك الإمبراطورية العثمانية، لأنه ما أراد أن يقاوم احتلالًا أجنبيًا ليحلّ محله احتلالٌ أجنبيٌّ آخر، وكانَ أن أدّى ذلك إلى حُكمٍ فرنسي عليه بالإعدام ففَرَّ إلى الخارج لفترة.

في البداية مالَ الإمام شرف الدين إلى دولة الملك فيصل العربية في الشام، وهي دولةٌ لم تَدُم طويلًا على كلِّ حال. لكنه عادَ وفاضلَ بين المشروعَين اللبناني والعربي، فألقى بكل ثقله إلى جانب الاستقلال اللبناني.

السيد شرف الدين ناصَرَ الدولة المدنية العلمانية في لبنان حتى تحت الانتداب الفرنسي، وتشهد على ذلك رسالةٌ بعثَ بها الى حبيب باشا السعد عند تعيينه رئيسًا للحكومة في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين قال له فيها: “ما أشوقني إليك، وما أسعد لبنان بإسناد مقاليد الحكم إليك، فإنك من أولئك الصفوة والقدوة. أما الجنوب، فلم تمتد إليهِ يدٌ ببناء ولعلَّ يدك الكريمة تُسرع إليه”.

ولمّا انتُخِبَ حبيب باشا رئيسًا للجمهورية (في 4 شباط/فبراير 1934)، كتب إليه السيد شرف الدين مُهَنِّئًا يقول: “لقد صدَقَت فراستي فيك، وهذه، يا صاحب الفخامة، ثقةٌ مُطلَقة لا يُمحَضُ مثلها إلّا لمثلك”.

وفي العهد الاستقلالي الأول، في بداية الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري، قامت ميليشياتٌ صهيونية في العام 1949 بارتكابِ مجزرةٍ في بلدة حولا على الحدود مع فلسطين المحتلة، فكتبَ السيد شرف الدين إليه مُعاتبًا: “إن لم يكن من قدرةٍ على الحماية أفليس من طاقة على الرعاية؟”.

وهذه الرسالة قرأ منها فقرة السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته قبل سنوات قليلة، مُلمِّحًا فيها إلى إهمال الدولة اللبنانية للجنوب.

وهناكَ رسالةٌ أخرى إلى الشيخ بشارة الخوري من السيد شرف الدين، عندما شنَّت الدولة اللبنانية حملةً عسكرية ضد عشائر الهرمل قال له فيها: “ألا ترون أنّ إعمارَ المدارس والمستشفيات يُغني عن إعمار السجون والقبور”.

وعندما قام شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي سنة 1957، بزيارةٍ رسمية إلى بيروت في أواخر عهد كميل شمعون، كان السيد عبد الحسين شرف الدين طريح الفراش، قبيل أسابيع من وفاته في تلك السنة، ولدى وصول الشاه إلى بيروت، أرسل وفدًا من حاشيته إلى مدينة صور، يرجو السيد أن يزور الشاه، وقيل له إنَّ الغاية من الزيارة تعزيز الطائفة الشيعية، لأن الشاه هو الملك الشيعي الوحيد بين الملوك والرؤساء في الشرق الأوسط.

رأى إمام الشيعة أنَّ الغاية من هذه الدعوة، تدعيم مركز الشاه في إيران والعالم الإسلامي، بعدما ضعف بسبب حلف بغداد، فقال للمتحدّث باسم الوفد: “إني أبرأ إلى الله من كلِّ من يمتّ الى الاستعمار وحلف بغداد، كائنًا مَن كان”.

فردَّ عليه المتحدث باسم الشاه: “إنَّ الشاه يريد أن يُقدّمَ مساعدةً مالية كبرى لكُلِّيتكم الجعفرية”.

فأجابه الإمام: “إنَّ الأمرَ يعودُ إلى الدين والمبدَإِ، لا الى المال والحكّام، ولا الى التشيّع والتسنّن”.

وبعد وفاة السيد عبد الحسين شرف الدين، جاء جيلٌ جديد من الأئمة الشيعة، لا يقلّونَ فهمًا للمسألة اللبنانية وموقعهم المُتقدّم فيها، بل زادوها علمًا، وحركةً، وانخراطًا، ووضوحًا، من أمثال السيد موسى الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهم…

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى