كيفَ يُمكِنُ للمؤسّسات المالية الدولية المساعدة على مُعالجة أزمة تكلفة المعيشة العالمية

كابي طبراني*

أصبَحَ التضخّمُ في الأشهر الأخيرة مَصدَرَ قلقٍ كبير وكلمةً شائعةً في جميع أنحاء العالم، مع ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بسبب صدمات العرض والطلب التي سبّبها في الغالب وباء كوفيد-19 والغزو الروسي لأوكرانيا في شباط (فبراير) الفائت. منذ بداية العام 2022، إرتفَعَ مؤشر أسعار المستهلك –وهو مقياسٌ لمتوسط مستوى الأسعار في بلد ما بناءً على تكلفة سلّة نموذجية من السلع الاستهلاكية— بنسبة 8.5 في المئة في الولايات المتحدة، و10.1 في المئة في المملكة المتحدة ، و8.2 في المئة في المكسيك، و10.1 في المئة في البرازيل. بل إن الأوضاع بدت أسوأ في العديد من البلدان النامية، مع بلوغ زيادة الأسعار على سبيل المثال نسبة 167.5 في المئة في لبنان، و33.5 في المئة في إثيوبيا، و24.9 في المئة في باكستان، حتى الآن.

يتركّز معظم هذه الزيادات في الأسعار في مجالين رئيسيين: الوقود والضروريات، مثل الأسمدة. على سبيل المثال، على الرغم من أن تكلفة البنزين قد تراجعت بشكل طفيف في الولايات المتحدة في الأسابيع الأخيرة، فقد ارتفعت الأسعار بنسبة 44 في المئة في فترة الاثني عشر شهرًا المنتهية في تموز (يوليو)، وفقًا لمكتب إحصاءات العمل الأميركي. هذه الزيادة هي إلى حدٍّ كبير نتيجة لاستعادة طلب المستهلكين على الغاز، إلى جانب انخفاض العرض الناجم عن التخفيضات في إنتاج النفط في ذروة جائحة كوفيد-19. كما أدت الحرب في أوكرانيا إلى تفاقم هذه الضغوط، حيث حظّرت الولايات المتحدة واردات النفط من روسيا، التي تنتج 10 في المئة من إمدادات النفط العالمية. ويبدو الوضع أكثر خطورة في الاتحاد الأوروبي، حيث ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 700٪ بحلول تموز (يوليو) 2022 وسط جهود بروكسل لتعليق الواردات من روسيا كجُزءٍ من حزمة العقوبات بسبب غزو أوكرانيا، على الرغم من انخفاض الأسعار بشكل كبير منذ ذلك الحين.

وينطبق الشيء نفسه على الأسمدة، والعديد من الأنواع التي تُعتَبَرُ روسيا أكبر مصدر لها في العالم. على مدار الإثني عشر شهرًا الماضية، ارتفعت أسعار ثلاثة أنواع من الأسمدة، اليوريا والنيتروجين السائل والأمونيا اللامائية، بنسبة 149 في المئة و192 في المئة و235 في المئة على التوالي، بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات والعقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا. نتيجة لذلك، عانى المزارعون في جميع أنحاء العالم، علاوة على التحديات الناجمة عن ارتفاع تكاليف الوقود. كانت لارتفاع الأسعار في هذه المجالات آثارٌ غير مباشرة على مجموعة من السلع الاستهلاكية – بما في ذلك البن والقمح والمنتجات الزراعية، من بين أشياء أخرى كثيرة.

دفعت مثل هذه الزيادات في الأسعار البنوك المركزية إلى زيادة أسعار الفائدة في محاولةٍ لخفض التضخّم المُتفشّي. على سبيل المثال، قام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بزيادة أسعار الفائدة أربع مرات هذا العام، من أقل من 1 في المئة إلى 2.33 في المئة، ويخطط لمواصلة الزيادات في أسعار الفائدة حتى نهاية العام 2023. بلدانٌ أخرى – بما فيها جنوب أفريقيا والمكسيك وبولندا وتركيا – حذت حذو البنك المركزي الأميركي برفع أسعار الفائدة بشكل كبير. وقبل أسبوعين فقط، رفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة بأكبر هامش في تاريخه، من صفر إلى 0.75 في المئة. لقد تمّ تصميم أسعار الفائدة المرتفعة لتهدئة طلب المستهلكين من خلال جعل الاقتراض أكثر تكلفة، ولكنها تزيد أيضًا من تكاليف خدمة ديون الدولة، والتي يمكن أن تضرّ بالاقتصادات النامية بشكلٍ خاص.

ببساطة، الوضع الاقتصادي سيّئ للغاية، لا سيما في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. ولكن في حين تمَّ إيلاءُ الكثير من الاهتمام للحلول المحلية لأزمة تكلفة المعيشة العالمية، مثل أسعار الفائدة والتركيز على الطاقة المتجددة، فقد أُعطِيَ اهتمامٌ أقل نسبيًا للدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات المالية الدولية. تشمل هذه المؤسسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين يملكان موارد مالية كبيرة وخبرة اقتصادية يمكن، وينبغي، الاستعانة بهما وتطبيقهما في هذه الأزمة. لدى المؤسسات المالية الدولية أدوات عدة تحت تصرفها لمساعدة البلدان في مكافحتها للتضخم، ولا سيما الاقتصادات النامية والناشئة.

أول أداةٍ من هذا القبيل هي تخفيف عبء الديون. غالبًا ما يعمل البنك الدولي، بالشراكة مع صندوق النقد الدولي، مع البلدان النامية لتقليل أعباء ديونها. في العام 1996، أطلقا معًا وبشكلٍ مشترك “مبادرة البلدان الفقيرة المُثقَلة بالديون”، التي تدعو إلى تخفيفٍ طوعيٍّ للديون من قبل جميع الدائنين للبلدان المُثقلة بالديون. مع ارتفاع أسعار الفائدة بسرعة في جميع أنحاء العالم، تتصاعد أيضًا تكاليف خدمة الديون بسرعة بالنسبة إلى العديد من البلدان، ويُعَدُّ الإعفاء من الطرق المهمة لتقليل الضغوط التي يواجهونها خلال هذه الفترة التضخّمية. يمكن للبلدان بعد ذلك أن تُركّزُ إنفاقها على تخفيف الألم الذي يُلحِقه التضخّم بالأشدّ فقرًا في العالم، أو على الحفاظ على الوظائف الأساسية وزيادة الأجور لمساعدة المُستَهلكين على مواكبة التضخم.

علاوة على ذلك، يُمكِنُ لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي تقديم إعفاءٍ دائم لقروضهما إلى البلدان الفقيرة المُثقلة بالديون وغيرها من البلدان التي تكافح مع أعباء ديونٍ شديدة، وهو أمرٌ تسعى إليه أصلًا “المبادرة المتعددة الأطراف لتخفيف عبء الديون” و”مرفق خفض الديون” التابع للمؤسسة الإنمائية الدولية. وقد وفّرَ هذان البرنامجان للدول ما يقرب من 100 مليار دولار لتخفيف عبء الديون منذ العام 2005، بما في ذلك إجمالي الإعفاء متعدد الأطراف من الديون للعديد من البلدان التي يقل دخل الفرد فيها عن 380 دولارًا سنويًا. الآن، مع التحديات الاقتصادية التي نواجهها في جميع أنحاء العالم، لا شك أن عدد البلدان المُؤهّلة لمثل هذه الإغاثة قد ازداد بشكل كبير.

ثانيًا، يمكن للمؤسسات المالية الدولية أيضًا الاستفادة من قدرتها على تزويد البلدان بالخبرة الفنية والتوجيه. يُقدّمُ صندوق النقد الدولي المشورة الرسمية من خلال بعثات المراقبة بموجب المادة الرابعة، والتي تتم كل عامين، وتُتَوَّجُ بنشر تقريرٍ مُفصّل لكلِّ بلد. ومن جهتهم، يدرس موظفو صندوق النقد الدولي عن كثب اقتصاد بلد ما ويعملون مع صانعي السياسات لمساعدتهم على استباق الأزمات من خلال إصلاحاتِ السياسة، بما في ذلك الحد من الهدر والهبات المالية والقضاء على الفساد. وفي الوقت نفسه، غالبًا ما ينشر البنك الدولي موظفين عملياتيين للقيام بمهام المساعدة الفنية المتعلقة بالسياسة الاقتصادية. ويمكن أن تكون هذه الإرشادات مهمة بشكل خاص خلال الأوقات الاقتصادية المضطربة التي يعيشها العالم راهنًا.

نشرت كلتا المؤسستين سلسلة من التقارير في الأشهر الأخيرة تُوضّح بالتفصيل أنواع السياسات التي تُوصي بها البلدان التي تكافح التضخم، وهناك موضوع ثابت يتمثّل في خفض الإنفاق الأقل أهمية لتوجيه الإغاثة نحو أفقر السكان في كل بلد. على سبيل المثال، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يحثُّ البنك الدولي البلدان على خفض دعم الطاقة غير المستهدف وتوفير وصولٍ أرخص إلى السلع الأساسية مثل الغذاء، الذي يمثل 60 في المئة من التضخم في المنطقة. في نيجيريا، يُشجّع البنك الدولي حاليًا خفض الإنفاق في المجالات غير الأساسية، مثل الدعم العام للبنزين، للتعويض عن التخفيضات في تعرفة الكهرباء. وتعزل مثل هذه السياسات الفئات الأكثر تضرّرًا من التضخم بينما تُعزّز أيضًا نموًا أكثر استدامة للمضي قدمًا. وبالمثل، حثَّ البنك الدولي الاقتصادات المتقدمة على توجيه أيِّ دعمٍ حكومي إلى أفقر السكان بدلًا من الجميع.

الأداة الثالثة التي هي تحت تصرف المؤسسات المالية الدولية تتمثل في تمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة. يضربُ التضخّم الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكلٍ خاص، حيث تعمل غالبًا على هوامش ربحٍ أصغر من الشركات الكبيرة وقد تُكافحُ للتنافس على الأسعار مع الشركات الكبيرة التي تستفيد من وفورات الحجم. عندما يرتفع سعر المعدات والمدخلات الرئيسة، تواجه الشركات الصغيرة والمتوسطة وضعًا مستحيلًا: يمكنها نقل التكاليف إلى المستهلكين الذين يقلّصون أصلًا من الإنفاق، أو تتحمّل الضربة الاقتصادية بأنفسها، أو تتخلص من الموظفين. في البلدان النامية، تُعتَبَرُ الشركات الصغيرة والمتوسطة مُحرّكات مهمة بشكل خاص للنمو الاقتصادي – فهي تمثل 90 في المئة من جميع الشركات في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، على سبيل المثال، وتوظف حوالي نصف القوى العاملة في القطاع الخاص. مع المزيد من الدعم الاقتصادي، يمكن أن يزداد هذا الوضع بشكل كبير، ما قد يخلق 15 مليون وظيفة إضافية في المنطقة.

تعمل المؤسسات المالية الدولية في كثير من الأحيان على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، ولكن يتعيّن عليها مضاعفة جهودها في مواجهة ارتفاع التضخم، حيث أن هذه الشركات أقل قدرة من الشركات الكبيرة على الحصول على قروض من البنوك، وقدرتها على القيام بذلك تنخفض عندما ترتفع أسعار الفائدة. في الواقع، ما يقرب من 40 في المئة من الشركات الصغيرة والمتوسطة في البلدان النامية لديها احتياجات تمويلية لم تتم تلبيتها – وهو رقم يكاد يكون من المؤكد أن ينمو مع ارتفاع التضخم. يقدم البنك الدولي حاليًا خطوط ائتمان مباشرة إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة لمساعدتها على سد فجوات التمويل هذه، مع التركيز بشكل خاص على تلك التي تملكها النساء والمجموعات الممثلة تمثيلًا ناقصًا. وبالمثل، يعمل صندوق النقد الدولي مع البلدان لزيادة القدرة التنافسية للشركات الصغيرة والمتوسطة، وذلك جُزئيًا من خلال تشجيع البلدان على الحد من المزايا التي تحصل عليها الشركات الكبيرة والمملوكة ملكية عامة من الحكومة. يمكن أن يساعد القيام بذلك البلدان النامية – والشركات الصغيرة التي تقود اقتصاداتها – على الصمود في وجه العاصفة الحالية.

على الرغم من أن التوقعات الاقتصادية العالمية الرائدة تتوقع إنخفاض معدل التضخم بشكل ملحوظ بحلول نهاية العام 2023 – لا يزال بعيدًا – ستظل الأسعار أعلى بكثير من مستويات ما قبل الوباء. وفي الوقت نفسه، وبالتوازي مع ذلك، من المتوقع أن يتراجع النمو الاقتصادي في معظم البلدان. يمكن للمؤسسات المالية الدولية أن تدعم هذه البلدان، ولا سيما البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل والدول الهشّة (مثل لبنان)، من خلال تخفيف أعباء ديونها، وتقديم المشورة الفنية السليمة وتوجيه التمويل إلى الشركات الصغيرة والمتوسطة. لن تقوم هذه المساعدة بدعم تلك الاقتصادات وجعلها صامدة على قدميها خلال هذه الفترة من التضخم المرتفع نسبيًا فحسب، بل ستساعد أيضًا البلدان المتضررة على تحقيق نموٍّ أكثر استدامة في المستقبل.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه: gabrielgtabarani.com أو عبر تويتر على:  @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى