مُكتشِف جبران يَتذكَّرُه (4 من 4)

المقطع الأَخير من رسالة جبران في “الحارس”

هنري زغيب*

في الأَجزاء الثلاثة السابقة من هذه الرُباعية، رويتُ كيف تعرَّفَ الصحافي اللبناني أَمين الغريّب بجبران ونشَر له مقالاتِه الأُولى، وما كان بينهما من مراسلات. وعند وفاة جبران (10/4/1931) خصَّص له الغريّب في الشهر التالي ملحقًا خاصًّا في عدد أَيَّار/مايو من مجلته “الحارس”.

في هذا الجزء الرابع والأَخير تتمةُ رسالة جبران إِلى الغريّب الذي ختَم مقاله الطويل مودِّعًا جبران.

حنين جبران إِلى لبنان

في القسم الأَول من رسالة جبران لدى سفَر الغريّب من نيويورك إِلى لبنان، غبطَه أَنه سيطأُ الأَرض التي وُلِد عليها جبران، وهي أَصلًا لم تغادر قلمه كاتبًا ولا ريشته رسَّامًا طوال حياته في أَميركا. وهنا الجزء الأَخير من تلك الرسالة، يَظهر فيها حنين جبران الحارق إِلى لبنان، وهو كان يتهيَّأُ للسَفر إِلى پاريس للتعمُّق في دراسة الرسم.

كتَب جبران في رسالته إِلى الغريّب:

“… وكيف وجدتَ لبنان؟ هل رأَيتَه جميلًا مثلما كان يصوِّرُهُ شوقُك وحنينك إِليه؟ أَم أَلْفَيتَهُ بقعةً جرداء يَسكنُها الخمول بجوار الكسَل؟ هل هو ذلك الجبل الأَشم الذي تفنَّنَتْ بوصف محاسنه قرائحُ الشعراء من داود إِلى سليمان إِلى إِشعيا إِلى جرمانوس فرحات إِلى لامرتين إِلى نجيب الحداد؟ أَم مجموع تلال وأَودية خالية من الأُنس، بعيدة عن الظرف، مكتَنَفَة بالوحشة؟

أَنت ستمرُّ بباريس طبعًا عندما تعود من لبنان. وفي باريس سنلتقي ونفرح بالجمال الذي صاغتْه أَيدي المتفنِّنين. وفي باريس سنزور البانتيون ونقف هنيهة على قبر فيكتور هيكو (كذا) وروسو وشاتوبريان ورُنان. وفي باريس سنسير بين أَروقة قصر اللوفر ونشاهد رسوم رافائيل وميكالانجلو ودافنتشي وبارجينو. وفي باريس سنذهب ليلًا إِلى الأُوبرا، ونسمع الأَغاني والتسابيح التي أَنزلَتْها الآلهة على بيتهوفن وواكنر وموزار وفردي وروسيني. إِن هذه الأَسماء التي يصعب على العربيّ أَن يلفظها هي أَسماء الرجال الذين بَنَوا مدنيَّة أُوروبا. هي أَسماء رجال طوَتْهُم الأَرض لكنّها لم تستطع أَن تطوي أَعمالهم العظيمة. إِنَّ العاصفة تُميت الأَزهار لكنَّها لا تقدر أَن تُبيد البُذُور. وهذه هي التعزية التي تسكُبها السماء في نفوس محبي الأَعمال العظيمة. هذه هي الأَشعة التي تجعلُنا، نحن أَبناء المعرفة، نسير على طريق الحياة رافعين رؤُوسنا بالفخر والغبطة.

رسالة جبران من باريس (30/7/1909)

الطائر الحُر

كنتُ بالأَمس قانعًا بالأَدوار الصغيرة أُمثِّلها على مسرح محدود. واليوم صرت أَرى تلك القناعة نوعًا من الخمول. كنت أَرى الحياة من وراء دمعة وابتسامة، فصرت أَراها من وراء أَشعة ذهبية سحرية تبثّ القوةَ في النفْس، والإِقدامَ في القلب، والحركةَ في الجسد. كنت كطائر مسجون في قفص راضٍ بالبُذُور التي تضَعها أَمامي يدُ القدر، فصرت كطائرٍ حُرٍّ يرى أَمامه بهجةَ الحقول والمروج الخضراء، ويريد أَن يطير سابحًا في الفضاء الوسيع، ساكبًا في الأَثير أَشباح روحه وخيالات أَمياله. أَشعر بأَن جبران قد جاء هذا العالم ليكتب اسمه بأَحرف كبيرة على وجه الحياة. وهذا الشعور يلازم نفسي ليلًا ونهارًا، وسَفْرَتي إِلى باريس هي أَول درَجة من السلَّم الذي يصل أَرضي بسمائي.

عندما تكون، يا أَمين، في مكانٍ جميل، أَو بين أُدباء أَفاضل، أَو بجانب خرائبَ قديمة، أَو على قمة جبلٍ عالٍ، عندما تكون في أَحد هذه الأَماكن، أُلفظ اسمي همسًا فأَسير نحوكَ بروحي، وأَتمتَّع معك بالحياة وبكل ما في الحياة من المعاني الخفية. أُذكُرني عندما ترى الشمس طالعة من وراء صنين، أَو من وراء فم الميزب. أُذكُرني عندما ترى الشمس جانحةً نحو الغروب وقد وشَّحَت الطلولَ والأَوديةَ بنقاب أَحمر كأَنها تذرف، لفراق لبنان، الدماءَ بدلًا من الدموع. أُذكُرني عندما ترى رُعاةَ المواشي جالسين في ظلال الأَشجار يَنفُخون في شبَّاباتهم، ويملأُون البرّيَّة الهادئة أَنغامًا كما فعل أَبولو عندما نفَتْهُ الآلهة إِلى هذا العالم. واذكُرني عندما ترى الصبايا الحاملات على أَكتافهنَّ آنيةَ الماء. أُذكُرني عندما ترى القروي اللبناني يَفلح الأَرض أَمام عين الشمس، وقد كلَّلَتْ قطراتُ العرَق جبينَه وأَلْوَت المتاعب ظهرَه. واذكُرني عندما تسمع الأَغاني والأَناشيد التي سكبَتْها الطبيعة في قلوب اللبنانيين، تلك الأَغاني المنسوجة من خيوط أَشعَّة القمر، الممزوجة برائحة الوادي، المتموِّجة مع نسمات الأَرز. واذكُرني عندما يدعوكَ الناس إِلى الحفلات الأَدبية والاجتماعية، لأَنَّ ذِكْري عندئذٍ يُعيد إِلى نفسكَ رسوم محبتي لكَ وشوقي إِليك، ويجعل لكلامكَ معاني مزدوجة، ولخطاباتكَ تأْثيرات روحية. فالمحبة والشوق هما بداية أَعمالنا والنهاية.

والآن، وقد كتبتُ هذه السُطُور، أَراني كذلك الطفل الذي رآه القديس أُغسطينوس بجانب البحر، ذلك الطفل الذي رامَ نقْلَ مياه البحر بصَدَفَة إِلى حفرة صغيرة في رمال الشاطئ. ثم أَرجو منك أَن تلفظ اسمي مشفوعًا بإِعجابي واحترامي أَمام سيِّدي والدِكَ، وأَن تتفضَّلَ بتقديم تحيّتي إِلى سيِّدتي والدتِكَ، تلك الوالدة التي وهبَت العالم العربي قوةً كبيرة، وأَعطَت لبنان شعلةً مشعشعة، وأَسعدَت جبران بأَخٍ حبيب. وأَرجو منكَ أَن تنثُر سلامي أَمام إِخوانك ومُحبِّيك مثلما يَنثر النسيمُ أَزاهر التفاح في نيسان.

والسلام عليك يا حبيب أَخيك – جبران”.

ختام مقال الغريّب في “الحارس” عن جبران

وفاء جبران للغريّب ولــ”الحارس”

وواضح من هذه الرسالة حنين جبران القويُّ إِلى لبنان ومَن وما في لبنان.

ويسافر جبران إِلى باريس ليَدرس الرسم، محقِّقًا حلمه الذي كان حدَّث عنه الغريِّب في الرسالة، وعمَّا سيقوم به مع الغريّب لدى مرور الغريب بباريس. وكتب من باريس إِلى صديقه أَمين رسالة قدَّم لها الغريّب كما يلي:

“… وفي 30 تموز/يوليو 1909كتب إِليَّ من باريس يقول: “وصلَني في هذه الساعة العددُ الأَخير من “الـمُهاجر”، وجعلَني أَقف مفكِّرًا متذَكِّرًا، ولا أَقول متأَسِّفًا، لأَنكَ أَدرى بمستقبلكَ مني. وما كنتُ أُريد أَن أَبعث به إِلى “الـمُهاجر” سيبقى في دفاتري ريثما تَنبُتُ تحت أَجنحة أَمين الغريّب صحيفةٌ ثانية. إِن “الـمُهاجر” أَصبح الآن بين أَيدٍ لم تلامس يدَ جبران، فجبران أَصبح غريبًا عن “الـمُهاجر”، ولكن لفظة “الـمُهاجر” ستبقى حلوةً ولذيذة”.

بعد هذه الرسالة يختُم الغريِّب مقاله الطويل (ص 704) بهذا المقطع آسفًا لموت جبران:

“رحِمَك الله يا جبران رحمةً واسعة، وسقى ثَراك بوابل صياب من مسامع قادري فضلكَ وعارفي مزاياكَ. لقد كتبتَ اسمك على لوحة الأَدب بأَحرف خالدة. والثمانيةُ والأَربعون عامًا التي قضيتَها على هذه الأَرض ليست بالحياة الطويلة، لكنَّ الدقائق من مثْل هذه الحياة المثمرة تُضارع السنين في حياة الكثيرين جدًا ممن عاصروكَ فيها”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى