يجب إحياء الثورة

دكتور فيليب سالم*

حين سكت أهل الحقّ عن الباطل، توهَّم أهل الباطل أنهم على حق
الإمام علي بن أبي طالب

‏ أسوأ مما حدث، هو ما قد يحدث. أن يرضخَ اللبنانيون للذّل، ويتأقلموا مع الواقع. أن يرضخ اللبنانيون للألم، ويلوذوا بالصمت. نصف قرن من الحروب والنزاعات والفشل وها نحن في هذا القعر. نحن في حالة من الموت السريري. أتريدون البقاء في هذا الموت، أم تريدون العودة إلى الحياة؟ وإذا كل ما حدث لم يوحّدنا، ولم “يهزّنا” للقيام بعملٍ كبير، فماذا يا ترى سيُوحّدنا وأيّ شيء “سيهزّنا”؟ وماذا نقول ‏للبنان الذي أحبّنا وللأرض التي غمرتنا؟ جئنا نقول: عودوا إلى الثورة. فالثورة وحدها تُعيدنا وتُعيده إلى الحياة. الثورة، نعم. ولكن أية ثورة؟ ها قد باءت جميع ثورات النار والحديد في العالم العربي بالفشل. لذا جئنا ندعو الى الثورة التي تحيا بالتمرّد اللاعنفي، والتي تفرض حضورها في الشارع بأبهى مظاهر الحضارة، وأبهى صوَر الموقف الرافض العنيد. نحن نريد أن نحيا في الثورة لتحقيق أهدافنا. وأهدافنا هي ثلاثة:

أوّلاً، تغيير المشهد السياسي التقليدي الذي يفتخر فيه رجاله ونساؤه بالتبعية والفساد، وبعدم الولاء للبنان، والإتيان برجالٍ ونساءٍ قادرين على بناء الدولة، بناء الوطن. وثانياً، تغيير العقل اللبناني السياسي والثقافة السياسية الشعبية بحيث لا تعود هذه الثقافة وتفرز طبقة جديدة من السياسيين مثل هذه الطبقة التي أخذت لبنان إلى حافة القبر. وثالثاً، رفض الوصاية، اية وصاية، ليستردّ لبنان قراره الحر. قرار السيادة، وقرار السلم والحرب.

‏قد نمتلك اليوم فرصة تاريخية لتغيير المشهد السياسي، وهي الانتخابات النيابية، المقرر إجراؤها في آذار (مارس) من السنة المقبلة. أقول “قد” لأنني أعتقد بأن القوى السياسية التي تقبض على لبنان اليوم والمتمثّلة بالسلطة السياسية وبـ “حزب الله”، لا تريد إجراء هذه الانتخابات. وأما إن فُرِضَت عليها فستحاول تزويرها. لذا نحن بحاجة إلى دعمٍ دولي للتأكّد من اجرائها، وإلى وجودٍ دولي للإشراف عليها. وتخاف هذه القوى السياسية ليس من صوت اللبناني المقيم في الوطن فقط، بل تخاف أكثر من صوت اللبناني المقيم في العالم، لأن هذا الصوت مُتحرِّرٌ نسبياً من القيود التي تُكبّل اللبنانيين المقيمين، ولأنه صوت اللبناني الذي هاجر من لبنان هرباً منها. لذلك ستلجأ الدولة إلى وضع العراقيل ‏ولجعل عملية الانتخاب في الخارج عملية ‏صعبة جداً. هذا يُحتّمُ علينا مواجهة السلطة باستراتيجية ذكية. إحياء الثورة وتوحيد قوى المعارضة، إذ إنه ليس بالإمكان إرسال أكثرية كافية إلى مجلس النواب الجديد إذا بقيت ‏فصائل المعارضة مشرذمة، وإذا بقيت الثورة خامدة. إن إحياء الثورة هو ضرورة لنجاح المعارضة في الانتخابات، فالثورة تخلق مناخاً داعماً لها وتضخّ زخماً قوياً في نفوس المُترددين للاقتراع وتولّد فيهم الحماسة للإدلاء بأصواتهم. الثورة كفيلة بأن تحوّل الغضب الذي يضجّ في صدور المواطنين إلى أصواتٍ في صناديق الاقتراع.

ونعود إلى النقطة المركزية، وهي دور الثورة في تغيير العقل اللبناني السياسي التقليدي. وهنا تكمن علّة العلل. هنا تكمن الأسباب الحقيقية لفشل عملية بناء الدولة. فهناك خللٌ كبير في العلاقة التي تربط المواطن بالوطن، وخطأ أكبر بمفهوم الدولة ومعنى السياسة. فالسياسة لا تُعنى بإدارة شؤون الناس فحسب، بل تُعنى أيضا بقيادتهم إلى الحضارة. تُعنى بصنع مستقبلهم. لم تُعنَ القيادات السياسية المتراكمة في لبنان بتغيير هذه المفاهيم المَرضية لأنها كانت تُعنى بترويج مصالحها لا مصالح الوطن. إن المفاهيم التي أوصلتنا الى هذا الحضيض الذي نحن فيه هي مفاهيم المدرسة اللبنانية السياسية التقليدية التي تؤمن بأن الحكم هو جاه، وليس مسؤولية، وبأن واجبَ المواطنين هو خدمةُ الحاكم وليس العكس. وتؤمن كذلك بأن المسؤول هو فوق الناس وفوق القانون وفوق المحاسبة، وبأن الفساد هو شطارة، وبأن الولاء لغير لبنان هو ذكاء سياسي ومصدر فخر واعتزاز، وبأن الولاء للزعيم يجب ان يتقدّم على الولاء للوطن. مفاهيم مَرضية عاشت وترعرعت في زوايا البنية التحتية للثقافة اللبنانية السياسية ودمّرت العقل اللبناني السياسي. نتج عن ذلك وصول طبقة من السياسيين الى الحكم، حكمت على لبنان بالإعدام. لذا يجب أن يكون راسخاً في أذهاننا أنه إن لم نتمكّن من تحرير العقل اللبناني من هذه الامراض فعبثاً نحاول بناء لبنان جديد.

أدّت هذه المفاهيم أيضا إلى تداعيات خطيرة جدًا. أخطرها هو الوصاية. لقد تعاقبت على لبنان وصايات عديدة، ولكن أهمها على الإطلاق هي الوصاية التي تقبض علينا اليوم. وصاية الثورة الإسلامية الإيرانية المتمثّلة بـ”حزب الله”. وخطورة هذه الوصاية هي قوتها. فهي تمتلك الرؤية المُوَحَّدة وتمتلك السلاح والمال. تواجهها في المقلب الثاني قوى سيادية لبنانية مشرذمة لا تمتلك الرؤية الموحدة ولا تمتلك السلاح والمال. لقد أخذت هذه الوصاية لبنان إلى ذلّ، يصعب علينا ان نصدّق أنها تريده. لقد حان الوقت أن نجلس ونتكلم. نتكلم بصدق واحترام. نحن لا نريد العداء. نحن نعتبر أننا نحن وأنتم هم أهل هذه الأرض، وأن ليس هناك في الأرض أرض غير هذه الأرض تكون ارضنا. يقول جبران خليل جبران “إن مَن يقول الحق بصوت منخفض يقول نصفه”. لذا جئنا نقول الحق بصوتٍ عال.

تقولون إنكم “مكونٌ أساسي في المجتمع اللبناني، وإنكم أهم قوة سياسية فيه”. هذا الكلام صحيح. وتقولون “إنكم تمثّلون أكبر طائفة في لبنان وهي الطائفة الشيعية”. هذا صحيح أيضًا. وكذلك صحيح ان الشيعة هم أهلنا وأحباؤنا. ولكننا جئنا لنقول لكم إن مشروعكم ليس مشروعًا لبنانيًا، وقراراتكم لا تُصنع في بيروت بل تُصنع في طهران. وأنتم تعترفون بأن مرجعيتكم هي الثورة الإسلامية الإيرانية وليست الدولة اللبنانية. أنتم ملتزمون سياسة التمدّد الإيراني في الشرق كله، وإعلاء شان الجمهورية الإسلامية لا إعلاء شان الجمهورية اللبنانية. ملتزمون مشروعًا اقليميًا يجعل من لبنان ساحة لمعارككم مع العالم.

قد تمتلكون قوّة السلاح ولكننا نحن نمتلك قوّة الحق. ونمتلك أيضًا الحق في الأرض. هذه الأرض هي أرضنا. ان لبنان في رأينا ليس “وطنًا ذا وجه عربي” كما قيل، بل هو بلد عربي من رأسه إلى أخمص قدميه. ولكن بالرغم من ذلك نحن نرفض ان يذوب لبنان في العالم العربي. فكيف تطلبون منا القبول بان يذوب في العالم الفارسي؟ هذا وطن الحرية في الشرق. فإن ماتت الحرية فيه يموت هو. وبعد ذلك يُسدل الستار على الحرية والحضارة في الشرق كله.

نحن نرفض إيديولوجيتكم السياسية المُتجذّرة في الدين. ونحن على عكسكم نعمل على فصل الدين عن الدولة وبناء الدولة المدنية في لبنان. أنتم تريدون الانحدار الى الطائفة، ونحن نريد الارتقاء الى الانسان. أنتم تريدون ان تكون شعوبكم رعايا، ونحن نريد شعوبنا مواطنين أحرارًا.

ولبناننا هو وطن الرسالة. الرسالة المقدّسة التي قد تكون أهم رسالة. والرسالة تكمن في التعددية الحضارية واحترام الآخر. تكمن في معانقة المسيحية للإسلام، ومعانقة حضارة الشرق لحضارة الغرب. والرسالة أيضًا هي ان تكون مواطنًا في لبنان وتكون في الوقت نفسه مواطنًا في العالم كله. هذه هي رسالة لبنان، فأية رسالة هي رسالتكم؟

أوَتذكرون كم رددتم على مسامعنا: إذهبوا شرقًا. فجئنا اليوم نسألكم: هل تعرفون شخصًا واحدًا من هؤلاء الذين هربوا من بلادهم، هرب إلى شرقكم؟ وجئنا نسألكم أيضًا إن كنتم تعرفون أن عددًا كبيرًا من هؤلاء الذين هربوا، قد هربوا من بلادكم، من بلاد محور الممانعة. ليكن معلومًا لديكم أن كلّ الذين هربوا، هربوا الى الغرب. هربوا الى الحرية. فعليكم ان تسألوا أنفسكم لماذا لم يهرب لاجئ واحد الى شرقكم؟

لم نقل هذا الكلام لأننا نريد التصادم معكم بل نقوله لعل الحق يجمعنا. لعل الحق يوفّر لنا فرصة جديدة للعمل معًا لنقيمه من مماته. وها نحن ندعوكم للقيام بعملٍ تاريخي يليق بشهدائكم. ندعوكم الى مُصالحةٍ مع ذواتكم. إلى مُصالحة مع لبناننا ولبنانكم. ونحن نعرف أنكم قادرون على ذلك. عسى ان لا تتردّدوا، وعسى ان تعملوا على ما هو أكبر وأبعد من أحلامكم.

ونتوجّه إلى أهلنا في لبنان ونقول لهم: نحن نعرف الذلّ الذي يقبض عليكم والألم الذي يكبّلكم، ولكننا في الوقت نفسه نؤمن بكم ونؤمن بقدرتكم على التغلّب على الإحباط. التغلّب على الموت. نحن نؤمن بقدرتكم على الانتصار. الإنتصار على أنفسكم. عودوا الى الثورة. لقد ارتكبنا خطايا كثيرة. وحدها الثورة تجعل لبنان يغفر لنا خطايانا.

  • الدكتور فيليب سالم، طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى