السوبرانو ماريَّا كالاس: الأُسطورة الأَيقونية الخالدة (2 من 2)

في عز أَناقتها وشهرتها

هنري زغيب*

مَرَّ في الجُزءِ الأَول من هذا المقال تعريف بالسوبرانو الخالدة ماريا كالاس، وكيف أَمضت طفولة صعبة، وشقَّت طريقها بعدذاك إِلى صالات العالم الكبرى.

في هذا الجُزءِ الثاني (الأَخير) تفاصيل أَكثر عن مسيرتها، وكيف انتهت سيرتها بمأْساة ذاتية.

كيف كان صوتها؟

معلِّمتها الأُولى ماريا تريفيلَّا أَعفتْها من دفع قسط الدراسة في الكونسرفاتور، بعدما سمعَت صوتها في جلسة امتحان الدخول، معتبرةً أَن صوتها الخام (قبل الصقل بالدراسة) “كان متوهِّجًا ويملأُ فضاء الغرفة مثل مجموعة أَجراس تطنُّ دفعة واحدة”. في البداية تقدَّمَت ماريا من معلمتها على أَن صوتها “كونْترآلتو” (الطبقات الدنيا للصوت النسائي)، لكنَّ معلِّمتها وجدَت أَنَّ صوتها سوبرانو (الطبقات العليا للصوت النسائي) وخصوصًا سوبرانو مسرحي، يمكنه أن يطال أَقصى التقنيات الصوتية. ولاحقًا صرَّحت أَنَّ ماريا كالاس “كانت أَهم طالبة مرت في الكونسرفاتوار، تدرس يوميًا وتغنِّي بين ست ساعات وسبْع، بدون أَدنى تعب”.

سنة 1939 انتقلت ماريا في كونسرفاتوار أَثينا لتدرس مع إِلفيرا دو هيدالغو التي ساعدتها على تعلُّم أُسلوب الغناء الأُوبرالي الإِيطالي “بِل كانتو” (الذي اشتهر في القرن الثاني عشر). وكانت في السابعة عشرة (1940) حين بدأَت رحلتها الاحترافية، وباكرًا تنبَّه لها النقاد فسمَّوها “ذات الصوت الإِلهي”. ولاحقًا، في ذروة مجدها، انقسَم الجمهور حول صوتها النادر الغريب الفريد بين: مَن رأَوا فيه “أَصداء سماوية”، ومَن رأَوا فيه “بشاعة في اختراق الأُذن”.

مع عشيقها أُوناسيس (قبل زواجه من “جاكي”)

لماذا فقدَت صوتها؟

في أَواسط الخمسينات، بدأَ يتَّضح في صوتها وهنٌ لم يعتَدْهُ مَن كانوا يتابعونه شمسًا ساحرة ساطعة في أُمسيات الأُوبرا. وتساءل نقاد كثيرون عن “سبب هذا الوهن وعن عدم قدرتها أَن تحافظ عليه أَكثر، مع تقدُّمها في السن”. ورأَت رفيقتا مسيرتها جولييتا سيمِيُونانو ولويز كاسيلوتّي أَنها “أَرهقت أَوتار صوتها بأَدائها أَدوارًا صعبة منذ بدء مسيرتها. وعزا زوجها ذلك إِلى “التغيير الهورموني الذي ينجم عن انقطاع العادة الشهرية باكرًا لديها”. ورأَت السوبرانو العالمية جوانا ساذِرلِند أن السبب هو “خسارتها 36 كلغ من وزنها في وقت قصير”. لكن صديقها تيتو غوبي رأَى أَن “صوتها لم يتغيَّر، لكنها كانت تعاني من أَمر شخصي آخر: فهي كانت في أَعلى قمةٍ من النجاح يحلم إِنسان أَن يبلغها، فشعرَتْ بمسؤُولية كبيرة أَن تستطيع الحفاظ على هذه القمة. وأحسَّت بواجبها أَن تعطي أَفضل ما لديها كل ليلة، وحين لم تستطع ذلك شعرت بفقدان الثقة في صوتها”. أَما السوبرانو رينيه فلِمِنْغ فرأَت أَن “الذي ضعُف ليس صوتها بل نَفَسُها الذي يغذِّي أَوتار صوتها. فخسارة وزنها خفَّفَت من حجم تنفُّسها الذي يدعم الصوت. وحين خفَّ التنفُّس بنقصان الوزن خفَّ دعم الصوت فضعُف. ولنا أَن نتصور رعبها من خسارة ثقتها بالصوت حين شعرت بكل ذلك”.

هذا ما قاله وتكهَّن به الآخرون. أَما هي فقالت سنة 1977 قبيل وفاتها: “لم أَفقد صوتي أَبدًا، لكنني فقدتُ القوة في مصدر تنفُّسي (العضَل تحت القفص الصدري)، فخفْتُ كثيرًا وخسرتُ شجاعتي وثقتي بقوَّة أدائي، ما جعلني أُرهق صوتي بقوة إضافية جعلتْهُ يرتعش فأَفقد سيطرتي عليه”.

آخر ظهور لها قبل اعتزالها

منذورة للنجاح من بداية الشهرة…

بدأَت ماريا كالاس احترافها مع مطلع شباط/فبراير 1941، بدَور ثانوي في الأُوبرا الوطنية اليونانية، ثم تطوَّرَت فباتت قابلةً أَن تتولى البطولة (آب/أغسطس 1942) في دور “توسكا” رائعة بوتشيني الخالدة. من يومها، ولسنوات لاحقة، أَخذت ماريا تتقدَّم احترافًا في دُور أُوبرا يونانية، حتى بلغ ظهورها على المسرح 56 ليلة في سبعة أَعمال أُوبرالية حين غادرَت إِلى أَميركا في أَيلول/سبتمبر 1945 وكانت في الثانية والعشرين.

وجاءتها الفرصة الكبرى سنة 1949 حين عُرض عليها دورُ البطولة في أُوبرا “المتزمتون” لبيليني (1901- 1835) قبل ستة أيام فقط من العرض الأول بسبب حادثة صحية أَصابت السوبرانو الأصلية. ونجحت ماريا بالدور، فانفتحَت لها أَهمُّ المسارح الإِيطالية سنة 1951، لأَعمال أُوبرالية خالدة، وخصوصًا على مسرح “أُوبرا سكالا ميلانو” الذي استضافها في كانون الأول/ديسمبر 1951 لعدد كبير من الأُمسيات.

سنة 1956 بدأَت مسيرتها الأَميركية على مسرح “متروبوليتان أوبرا نيويورك” مفتتحةً الموسم بأْوبرا “نورما” لبيليني، وأَعادت الدور ذاته بعد عامٍ في لندن على مسرح “الأُوبرا الملَكية” في لندن. واعتبرت ماريا أَن انطلاقتها في لندن كانت “فرصة العمر”، وعلى ذاك المسرح سنة 1965 اختتمت مسيرتها اللندنية بدور “توسكا” الذي كانت افتتحت به مسيرتها الاحترافية سنة 1942.

طابع باسمها في البرتغال

… حتى وفاتها

بعد فشل زواجها من الصناعي الإِيطالي جيوفاني مينيغيني وطلاقها منه، وبعدذاك فشل علاقتها الحميمة بالملياردير اليوناني أُوناسيس (قبل أَن يتزوج لاحقًا من جاكلين كيندي) انتقلت ماريا إلى باريس تعيش في عزلة تامة حتى وفاتها بنوبة قلبية حادة في 16 أَيلول/سبتمبر 1977 وهي في الثالثة والخمسين. وكانت جنازتها بعد أَربعة أَيام في كنيسة مار أسطفانوس الأُرثوذكسية على خطوات من قوس النصر في قلب باريس، كما طلبَت في وصيتها.

ولدى انتشار خبر وفاتها، صدرَت عنها مقالات في معظم أَنحاء العالم، هي التي أَدهش صوتُها عددًا كبيرًا من النقاد فامتدحوا تقنية أَدائها غناءً وتمثيلًا، وخصوصًا في أَصعب الأَدوار التي تتطلَّب جهدًا مرهقًا في التنفيذ. فمسيرتها الغنائية امتدَّت من أَعمال فاغنر ودونيزيتي وبيليني وروسيني إِلى أَعمال فيردي وبوتشيني. وتلك المسيرة الفنية الناجحة غطَّت على حياتها الشخصية، حتى أَن مجلة “أَخبار الأُوبرا” (تأَسست سنة 1936 واحتجبت قبل أَسابيع في تشرين الثاني/نوفمبر 2023) كتبَت في مقال نقدي مهمّ سنة 2006: “بعد ثلاثين سنة من وفاة ماريا كالاس، لا تزال رمز الديفا الخالدة، وستبقى كذلك لسنين طويلة مقبلة”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى