سرُّ نجاحِ الصين في النظامِ العالميِّ الجديد

بقلم السفير الدكتور جان معكرون*

الشيءُ اللافت للإنتباه أنّ الصين رُغم نظامها غير الديموقراطي، فهي لا تسعى إلى نشر الإيديولوجيات المتطرّفة الراديكالية، كما لا تُعارض الأنظمة الديموقراطية في العالم.

وإذا تمايزت الصين أحياناً بالنزعة المركانتيليّة (إعتماد سياسة زيادة الصادرات وتقليل الواردات وحماية أسواقها المحلية ورفع مخزون الذهب) فإنها ليست في نزاعٍ مع الرأسمالية لأنّ قادتها قد اعتمدوا سياسة التفاعل الإيجابي والانفتاح مع العالم الحديث.

إنّ الإنجاز الكبير الذي حقّقته القيادة الصينيّة هو قيامها بإصلاحات غير مسبوقة راعت أولاً مصالح الشعب وواكبت مُستلزمات الحكم الرشيد وهي الآتية:

  • توطيد الديموقراطية داخل الحزب الحاكم.
  • محاربة الفساد.
  • الإستجابة لمطالب الشعب والتي عبّر عنها في التظاهرات وعبر وسائل التواصل الإجتماعي.

إضافةً إلى ذلك، فقد عمدَ الحزب الشيوعي الحاكم إلى تثبيت حكمه بالحجّة القائلة بأنّ ديموقراطيته قد خُطِّطت وصُمِّمت من أجل إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية في حين أدرج المصالح السياسية في المرتبة الثانية.

وتأسيساً على هذا المنحى الجديد في الحَوكمة الصينية، يُمكن القول أنّ الصين تهدف أولاً وآخراً إلى تفهّم حاجات الشعب، والسعي إلى تلبية حاجياته وتأمين رفاهيته. وإنّ الطريقة الفضلى في الاستجابة لمطالبه تكمن في سماع صوته وتلبية مطالبه التي أطلقها خلال تظاهراته وفي وسائل التواصل الاجتماعي وذلك قبل أن يثور الشعب وتَعمَّ الفوضى. كما تنبّهت القيادة الصينية إلى أنّ الديموقراطية لا تعطي ثمارها إلاّ إذا تمّ التصدّي لعدوّها الدائم المتربّص بها والمشوِّه لصورتها، عنينا به الفساد. وللدلالة على إنجازات الصين في تحقيق النموّ الاقتصادي والمؤدي إلى الأمن الاجتماعي، يُشير بعض المصادر إلى أنّ 1% من الشعب الصيني بلغ دخله السنوي 6,000 دولار في العام 1990، في حين تضاعف هذا الدخل وبلغ 12,000 دولار ليشمل 35% من الشعب في العام 2020.

وفي مقاربة يغلب عليها الوجه التاريخي، أوضح هنري كيسنجر في كتابه “عن الصين” (On China) الصادر في العام 2011، أنّ الصين وخلافاً لغيرها من الإمبراطوريات التي أتت وذهبت، فإنها تفتخر بتاريخها الفريد لجهة خلفيتها وديمومتها الثقافية والسياسية، مُعتبراً أنّ أساس هذه الديمومة لا يستند إلى العنف أو استعمال القوة بل إلى تراث ثقافي مختلف تماماً، ألا وهو نظام القيم الكونفوشيوسية الهادفة إلى تحقيق الانسجام الداخلي والعالمي بعيداً من كل ما يتعلق بالفتن والنزاعات.

ولا شكّ أنّ الصين التي استوحت من تعاليم كونفوشيوس القيم المنادية بالانسجام الداخلي والعالمي والخير العام وبضمان حياة الشعوب الاقتصادية، كانت على حقّ عندما سعت أولاً إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والتوازن الاجتماعي، فبدت بذلك مُحصّنة بهذه القيم ضد أي نزاعات داخلية أو خارجية، خصوصاً أنّ غالبية الحروب تعود في أسبابها إلى نزاعات بين الدول المجاورة أو بسبب الخلافات على المصالح والتي غالباً ما تكون اقتصادية.

وانطلاقاً من هذه الذهنية ولتبيان مدى حرص الصين على توطيد علاقاتها الوديّة مع دول الجوار فلقد عزّزت علاقات حسن الجوار مع “رابطة دول جنوب شرق آسيا” (ASEAN) والتي تضمّ عشر دول تسعى إلى التعاون في مجالات السياسة والاقتصاد والأمن.

واستزادةً في تثبيت سياستها واستراتيجيتها الحكيمة، اعتمدت الصين في العام 2006 نهجاً واقعياً وذكياً في سياستها الخارجية، وهو ما يستحقّ أن يكون نموذجاً يُحتذى به ولقد ارتكز على العناصر التالية:

  • الدول العظمى هي المفتاح.
  • دول الجوار هي الأولوية.
  • الدول النامية هي الأساس.

وهكذا، نستنتج من هذا النهج أنّ الصين قد بنت أولاً استراتيجيتها الجديدة على توثيق علاقاتها مع الدول العظمى واصفةً إيّاها بالمفتاح، أي مفتاح الحلول في حال اقتضت الضرورة الاستعانة بدعمها. في حين أعطت الأولوية لتأسيس علاقات وديّة مع دول الجوار بهدف ضمان أمنها واستقرارها، وهي على حقّ لأنّ التاريخ يبيّن أنّ غالبية الحروب قد نشأت بين دول مجاورة. كما اعتبرت الصين أنّ مصلحتها تستلزم بناء علاقات مميّزة مع الدول النامية وقصدت بذلك الدول الإفريقية، وهي المخزون الأكبر للموارد الطبيعية والأوليّة. وتأكيداً على اهتمام الصين بهذه الدول، فلقد ورد في دراسة قيّمة صادرة في العام 2009 عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن بعنوان “تحديات الصين الإفريقية” (China’s African Challenges) أنّ الصين دخلت في شراكة اقتصادية مع غالبية الدول الإفريقية والبالغة 53 دولة، والمقصود بذلك تمويلها لمشاريع عديدة في القطاعات الصناعية والزراعية والتكنولوجية، إضافةً إلى أنّ إفريقيا أضحت السوق الأساسية للمنتجات الصناعية الصينية.

تجب الملاحظة إلى أنّ القيادة الصينية قد أنتجت مقترباً سياسياً حديثاً تخطّى الحرص على مصالح الصين الوطنية والداخلية لكي يصبح عابراً للحدود والقارّات.

وقبل إيضاح محتوى هذا المقترب أو المفهوم، نذكر أنه انبثق بوحيٍ من الإطار الفكري المتأثر بتعاليم كونفوشيوس وبفعل استراتيجيتها الجديدة في السياسة الخارجية، إضافةً إلى وهج الأجواء المضطربة السائدة بين الصين والولايات المتحدة. ولقد تمظهَرَ هذا المقترب السياسي الجديد في الخطاب الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ في العام 2013 حين أعلن عن “مجتمع المصير المشترك”.

إنه مفهوم سياسي غير مسبوق يتخطّى السعي إلى المنفعة الأحادية لدولة ما ليبلغ مستوى المنفعة التشاركية لكامل المجتمع الدولي ويرتكز على المقوّمات التالية:

  • مواجهة المعتقدات القديمة كالهيمنة الأميركية وعدم الاستقرار الإقليمي المحرَّك من قبل هيئات متحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية.
  • إعطاء صورة مُشرقة عن الصين بأنها قوّة عظمى ترتكز على قيم معنويّة وأخلاقيّة تهتمّ في المقام الأوّل برفاهية الإنسانية جمعاء، وذلك خلافاً لدول أخرى معروفة بحرصها على مصالحها الخاصة والضيّقة والمسيطر عليها من قبل مجموعات مصالح خاصة.

نُشير أخيراً إلى أنّ كبير السياسيين الصينيين يانغ جيتشي قد وصفَ “مجتمع المصير المشترك” بالتحالف غير المنحاز. في حين وصفه آخرون بأنه مجتمع المستقبل المشترك للإنسانية. إنه مفهومٌ جديد ما زال في طور التحقيق وإنّ المستقبل وحده سيُبيّن نجاحه أو فشله.

  • السفير الدكتور جان معكرون هو كاتب وديبلوماسي لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى