هل نحنُ أمامَ حَربِ استنزافٍ طويلة؟

الدكتور ناصيف حتّي*

في خِضَمِّ الحديثِ عن مُفاوضاتٍ تتقدَّمُ وتتعثّرُ بشأنِ التَوصُّلِ إلى هُدنةٍ مُطَوَّلة في غزّة كخطوةٍ أوَّلية، كما يُحاوِلُ بعضُ الأطرافِ الدوليّةِ الإيحاء، وذلكَ في الطريقِ إلى التوصّلِ إلى وقفِ إطلاق النار، يزدادُ التَصعيدُ العسكري الإسرائيلي سواءَ على الأرضِ أو في الأهداف: بنيامين نتنياهو يُكرّرُ أنَّ العمليةَ في رفح ستَحصَل، حتى لو تأخّرت بعضَ الوقت. ويُلَخِّصُ “مُعادَلةَ رفح” بما يلي:عدم التحرّك في رفح يعني خسارة الحرب. كما إنَّ التَصعيدَ في الضفة الغربية استقرَّ كمسارٍ آخر في الحربِ الإسرائيلية من خلالِ ازديادِ أعمالِ القمعِ والعُنفِ ضدّ الفلسطينيين، خصوصًا في منطقة جنين، في ظلِّ العديدِ من الموشّرات التي تدلُّ على قيامِ انتفاضةٍ جديدة (الثالثة) والتي في ظلِّ الحربِ الدائرة قد تأخذُ مجرى أكثر حدّة من الانتفاضتَين السابقتَين في تاريخ الضفة الغربية.

في الإطارِ نفسه، حَوَّلت إسرائيل القدسَ الشرقية إلى “ثكنةٍ عسكرية” تحضيرًا لما قد يَحصَل من تطوّراتٍ في شهر رمضان من حصارٍ ومُحاصَرةٍ للمسجد الأقصى بواسطة المُتشَدّدين الدينيين أو بسببِ سياساتِ الخَنقِ والتضييقِ التي تقومُ بها إسرائيل، الأمرُ الذي يُشَكِّلُ فتيلَ انفجارٍ كبير. وسيكونُ من الصَعبِ احتواء نيران ذلك الانفجار إذا حَصَل.

التصعيدُ الثالث في الحربِ الإسرائيلية يَحصَلُ على الجبهةِ اللبنانية من خلالِ التصعيدِ النوعي في الأهداف عبرَ ما يُعرَفُ بالضربات الجراحية أو الاجتثاثية تطالُ أهدافًا استراتيجية عند العدو. وتتخطّى تلك الأعمال الحربية ما يُعرَفُ بالمواجهةِ العسكريةِ التقليدية، الأمرُ الذي يُوَسِّعُ بشكلٍ كبيرٍ جغرافيا الحربِ الدائرة.

عنوانُ الحربِ الإسرائيلية هو إلغاءُ فكرة إقامة دولة فلسطينية حتى في المستقبل البعيد ولو كعنوانٍ للتهدئة “وتخفيض الصراع”. الهدفُ هو الفصلُ كُلّيًا ونهائيًا بين غزة والضفة الغربية والتعامُلُ معهما على هذا الأساس، وفَرضُ ذلك على الآخرين باعتبارهما كيانَين مُنفَصِلَين يحتلّان مَوقِعَين مُختلفَين في الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية للصراعِ الدائر: الضفة الغربية والقدس الشرقية هما جُزءٌ من إسرائيل الكُبرى التي تجري عملية تعزيز إقامتها من خلال تهويد الجغرافيا والديموغرافيا كما نذكر دائمًا. أما “كيان” غزة فهو مشكلةٌ أمنية استراتيجية من حيث الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل. وهناكَ خطٌّ أحمر عند الحكومة الإسرائيلية يرفضُ الاعترافَ بأيِّ ترابُطٍ بين الضفة الغربية وقطاع غزة. الأخير يجب أن يخضع للسيطرة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية وتنتظم الحياة فيه مُستَقبلًا تحت أيِّ إدارةٍ فلسطينية يُمكنُ إقامتها: نوعٌ من الحكم الذاتي، يُبقي القطاع  تحت تلك السيطرة الإسرائيلية .

يدفعُ ذلك لطَرحِ بعضِ الأسئلة والتساؤلات في ما يتعلّقُ بالاستراتيجيةِ الإسرائيلية في الحربِ القائمة على الجبهاتِ المُشارِ إليها. إسرائيل التي صارت أسيرةَ الأهدافِ المُرتفعة السقف جدًا على الجبهتَين الفلسطينية واللبنانية، هل ستتبع استراتيجيةَ استنزافٍ طويلة الأمد رُغمَ كلفتها ومخاطرها عليها أيضًا سواءَ على الجبهة اللبنانية أو الجبهة الفلسطينية؟ استراتيجيةُ استنزافٍ، ستكونُ مُكلِفةً بالطبع أيضًا لإسرائيل، وتشهدُ تصعيدًا وتخفيضًا في القتال بُغيةَ تحقيقِ أهدافها المُرتَفعة السقف وغير المُمكنة، طالما لا توجد ضغوطاتٌ دولية فاعلة لوقفٍ كُلّيٍّ للحرب كبديلٍ أكثر من ضروري لسياسات الهُدَنِ القصيرة والطويلة. السياسات التي تهدفُ إلى تنفيسِ الاحتقانِ بعض الشيء أو التقاط الأنفاس في حربٍ مُمتدّة في الزمان وربما في المكان. حربُ استنزافٍ يدلُّ الكثيرُ من المؤشّرات أنّها قد تستقرُّ كجُزءٍ من المشهد السياسي في المنطقة لفترةٍ لا يدري أحدٌ حاليًا متى أو كيفَ ستنتهي على الجبهات القائمة، وبأيِّ تكلفةٍ بالنسبة إلى الجميع .

متى تحينُ لحظةُ التعب؟ سؤالٌ يبقى مطروحًا في مشهدٍ شديدِ التعقيدِ ومفتوحٍ على كافةِ الاحتمالات أو السيناريوات: ترابطٌ في القتالِ على الجبهاتِ من جهة، واختلافٌ أو فكُّ ارتباطٍ بين التسويات أو التفاهمات التي ستُوقِفُ القتال على تلك الجبهات، ولكن لا تُنهي النزاعَ  من جهة أُخرى. أيُّ ترتيباتٍ في غزة وفي جنوب لبنان غدًا؟ متى ياتي ذلك الغد؟ ترتيباتٌ تبقى انتقاليةً ومَفتوحةً في الزمان على كافةِ الاحتمالاتِ طالما لم يتمّ التوصُّلُ إلى تسويةٍ سياسية سلمية شاملة، وهو ليس بالأمر السهل ولكنه ليس بالأمرِ المُستحيل.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى