تَكَلَّموا

بقلم رشيد درباس*

مَنْ جَعَلَ المستحيلَ هَدَفًا، وَجَد المُمْكِنَ هزيمة، قال جان عبيد

يكاد تردِّي الوضع اللبناني أن يتفلَّت من أي انضباط، فالمؤشرات تؤكد أن مِقْوَدَ السفينة تتجاذبه الأيدي، وأن البصائرَ عَمِيَتْ عن المسار، فلا تتبين صخورًا مُتَرَبِّصَة، أو تَسْبُرَ ماءً ضَحْلًا، أو ترقب نشرة جوية تنذر بأخطر الأنواء. لم تتعرّض دولة ذات نظامٍ برلماني إلى مثل هذه العشوائية السياسية والدستورية على الرغم من وضوح النصوص التي تُعَيِّن حدود استقلال السلطات وتداخلها، لأن فكرة الدولة لم تتوطَّن بعد في وجدان المجموعات السياسية اللبنانية، فالنصُّ بالنسبة إلى بعضهم مِنَصَّةٌ انطلاق، وبالنسبة إلى آخرين عوائق في وجه الطموحات، بحيث وجدنا أنفسنا في صراعٍ انتحاري من أجل التحكّم بالدستور، بدلًا من احتكامنا جميعًا لهذا القانون الأسمى الذي ابْتَكَرَتْه الحضارات من أجل حسن سير المجتمعات المتمدنة، وهذا ما أدّى إلى تَوَحُشِ الخطاب السياسي، وغَلبة الميول الاستحواذية المستحيلة، واستعصاء ابتكار الحلول الطبيعية والارتهان إلى “صديق خارجي افتراضي” على وَهمِ  الاستنصار به على الأخ والجار والشريك.

لقد ضجرنا من لَوْذَعِيَّة الخطاب وبهلوانية التفسير، وفقدنا الأمل في لفت نظر المُنَظِّرين إلى أنَّ العبثَ بالنصوص هو عبثٌ بالمصير، وأن حِبْرَ الدساتير هو “روحُ الشرائع”، ويئسنا من التنبيه إلى أن الأداء السياسي الرثَّ لا يورث إلا الانحلالَ الاجتماعي وفوضى العيش في الحقول المغناطيسية، وهذا يُقلق الضمير ويُهدّد الأمان، إذ إن أخطر التخريب هو الذي يصيب العقول ويطيح بالرجاحة، ويجعل الشوراع والساحات والشاشات، منابرَ لِبَثِّ الكراهية الاجتماعية والمُحاكمات العمياء، والإدانات المُتلهّفة للبحث عن ضحية؛ ذلك أن ثورةً لا تنجحُ إذا قادها الغضب وامتطاها التبجّح وأمسكت زمامَها الرعونة وسادها الكُرْهُ النقيضُ للمحبة الأصيلة التي بزغت في 17 تشرين واجتاحت الميادين والأقمار الصناعية فاندهش العالم من التنظيم العفوي الفائق الرقيِّ والفائق الدقّة.

علينا أن نعترف بأن الانتفاضة كانت ذات خواصر رخوة، غَرَزَ فيها أهل النظام أَسِنَّتهم المسمومة، وأقحموا عليها الأدعياء وأفسحوا الشاشات للمراهقة والجلافة، الأمر الذي أجفل منه أهل البيوت، فقبعوا  فيها، وتوجّسوا من  حرائق الشوارع، بعد أن كانوا قد أضاؤوها بنور الأمل. كما علينا الاعترافُ بأن التَّكلُّس المزمن للحياة السياسية، والصدأَ المُفترس للبراءة والطهارة، أَرْسَخُ من أن يُزالا بقبضة أيام ووحدة أعلام، وفضاء واسع من الأحلام، وبأن زعزعة البُنْيَة العقيمة القائمة تحتاج إلى تَبَصُّرٍ وقراءةٍ ومنسوب من الصبر لترويض الجموح الرافض لكل شيء. فالعمل الوطني يُقيم الحساب لموازين القوى، ويُكتِّل الحلفاء ويخاطب الناس بلغة مصالحهم، ويؤلِّف بين مَن اتَّحدت أهدافهم ولو مرحليًّا؛ أما التعالي وادعاء احتكار العفة ونبذ الآخر، فما هي إلّا أدوات الثورة المُضادة، تُغري الحناجر الغاضبة بابتلاعها لكي تختنق بها بعد ذلك.

في كل مرة تحاول فئات أو أحزاب أو دول ليَّ عنق الطبيعة، تُثْبتُ الطبيعة أن قانونها الفطري أقوى من القوانين المُخلَّقة مهما تَدجَّجَتْ بأسباب القوة؛ من ذلك أنه عندما عجزت الفئات المُتضرّرة من الهيمنة ونهج التعطيل عن التلاقي أو الاجتماع، انبجست مياه ينابيعها، وتدفقت إلى حوض بكركي بانسراب عفوي، فاتحد المصبُّ رغم تباعد الينابيع.

ومن ذلك أيضًا، أن مشروعًا يُشكّل جزءًا مهمًّا من الصراع الإقليمي، يتعذّر أن يتكيّف معه المجتمع اللبناني الذي لا يستطيع العيش إلى ما شاء الله في حالة الحروب المُستدامة، أصبح يستشعر قشعريرة انحسار غطاء حلفه المسيحي. كما لا ينبغي لنا أن نغفل أن نجاحه المؤقت في تخفيف الوطأة عن مجتمعه ماليًّا وتنظيميًّا ومعيشيًّا، لا يتّصف بالديمومة، كما أنه مشوبٌ بعطبٍ وطني، لأن جمهور “الحزب” العريض لا يمكن ان تنفصل مصالحه المستقبلية عن مصالح اللبنانيين ولا أن يستقلَّ بنمط حياة غريب عنه،  مثلما هو غريب عن جوهر فكرة  لبنان الكبير الذي مرَّ على إنشائه مئة عامٍ ينبغي أن تكون كافيه لكي يرسخ في عقولنا أن المصلحة التي استشرفها مؤسسوه صارت أكثر إلحاحًا وواقعية ومقبولية  لدى السواد الأعظم من الناس.

لقد دفعنا باهظًا جدًّا ثمن التمسّك بالمستحيل، حتى سقط القصر والقيادة في قبضة “السوخوي”، وسقطت معهما الممانعة المسيحية، فلما حصل أخيرًا فخامة الرئيس على جائزته التي طال انتظارها، كانت أشبه بجائزة الترضية، أو كَمَنْ يُغَنّي على عُودٍ بلا وَترِ، كما قال أمير الشعراء بشارة الخوري.

في هذا الخضم السياسي المُتلاطِم المُشبَع بالإنكار والتصلّب، خرج صوت البطريرك هادئًا، داعيًا إلى إعادة الاعتبار للحوار الداخلي، تجنّبًا لتدخّل الدول، التي ستتدخّل رغمًا عنا إذا اقتضت مصالحها ذلك، وتلافيًا للدعوات اليائسة المُسْتَسْهِلَةِ التي بدأت ترتفع جدًّا في أوساط مسيحية متعددة، رافعة شعار التنصّل من هذا الاستعصاء والتحكّم، باستقلال كل طائفة بأرضها، تواكبها في ذلك أصوات من طوائف أخرى. ولهذا فإن سيّد بكركي رفض أن يكون خطيبًا مارونيًّا أو مسيحيًّا، بل أكّد أنه يستلهم مصالح اللبنانيين كلهم بحسب ما جاء في حديثه مع جريدة “النهار”، حيث أكّد تمسّكه بوثيقة الوفاق الوطني، ووحدة الدولة تبيانًا لمن ضاقت صدورهم وقلَّ إيمانهم، بأن الدعوة للفيدرالية أشبه بحشرجة المصدور الذي يحسب الداء دواء، والتقسيم شفاء.

ذَكَّرَنا واحدٌ من كتبة الطائف وشهوده الأستاذ إدمون رزق “إن لبنان أصغر من أن يُقَسَّم وأكبر من أن يُبْتَلَع”، وهذا يدعو للإشارة إلى أن الزمن تخطى “الكنتنة” والفدرلة، لأنهما لا ينطبقان على الواقع اللبناني الذي لا يشكو من خلل في العيش المشترك بين الطوائف. وما هذه الكهرباء الوطنية التي تسري هذه الأيام في أوصال المُنتفضين من غير مِنَّةٍ من كهرباء لبنان أو” فاطمة غول” إلّا تجسيد للمعاناة والمصالح المشتركة والنضال المشترك حيث لم يُبرز أحدٌ هويته  الطائفية عندما دخل إلى باحة بكركي، أو عندما اجتاز حدود الكانتونات.  وأمام استفحال الخلاف على المسائل الجوهرية الكبرى، كيف تقوم دولة فيدرالية بغياب جيش فيدرالي مُوَحَّد تحت قيادة مُوحَّدة تابعة للسلطة العليا، وكيف تكون سياسة خارجية مُحدَّدة ولبنان مُنقسم بين محور إيراني وهوًى خليجي، وميول غربية، فيما يَعُدُّ بعضهم مُجَرَّدَ الدعوة  إلى “الحياد الناشط” خيانة عظمى، بل كيف سيتعايش “الكانتون” المهيض الجناح، مع جاره ذي الأجنحة الصاروخية؟!

لهذا، فإنني أنظر إلى خطاب بكركي على أنه “مانيفستو” لتجديد الصيغة اللبنانية والميثاق الوطني، وتنبيهٌ الى مُرْتَهِنِي الدولة، أن الرهينة باتت على وشك لفظ الروح، بحيث لن تكون بعد ذلك فدية محلية أو إقليمية، وإعلان صارم لرفض المحاولات الانقلابية بالدعوة إلى التفاهم على إبقاء لبنان دولة من دول حوض البحر المتوسط لا بحر قزوين الذي، لدى سعيه إلى فتح قنواته في دول الجوار، اكتشف أن نجمة داوود ذات الأطراف السرطانية المُدَبّبة تتفشى في “بحر العرب”. إن الذين أخذوا على نداء بكركي أنه فضفاض، وبعيد التحقيق، غاب عنهم أن مجرد الجهر به أفضى إلى عودة التواصل مع “حزب الله” إثباتًا لجدارة القوة الناعمة بالتفاوض المتوازن، وأنَّ العظاتِ المتواترةَ المتصاعدة الواثقة، تخطت التموضع الدكاكيني لكثير من الأحزاب، ولامست العصب الحساس للمواطنين عندما أطلت من شرفة بكركي على الطيف اللبناني قَوْلةُ: لا تسكتوا.

أما ما قرأته في عمق السطور وبينها فهو القلق المشروع على أن النسيج الوطني عندنا يفقد بعضًا من ألوانه، كما حصل في فلسطين والعراق، وأن الخوف من نتائج ذلك يتجسّد في طلب الاحتماء بنصوص دستورية أو بمعونةٍ خارجية أو بوقف عدٍّ أو غير ذلك.

وقرأتُ أيضاً أن هذا يسوؤنا كلنا فالثوب الذي يفقد خيطًا واحدًا منه يُبلى، والواحات القليلة تبقى وحدها رَوْنَق الرمال الشاسعة الذهبية. ومن هذا الباب استقبلت أرضُ الرافدين سابقًا البطريرك الراعي، وأخيرًا قداسة البابا واستضافت أبو ظبي أهم قمة روحية في التاريخ وأصدر الأزهر إعلان المواطنة في تعبير واضح عن أن الأديان في الأصل تُجَمِّع ولا تُفَرِّق وأن الاستثمار في العصبية الطائفية هو الذي يستدعي الخراب.

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى