لبنان “الشفافية” … عفواً فرنسوا باسيل

بقلم الدكتور هشام جابر*

غريب أمر هذا البلد “العظيم” الذي سرقت مقدراته على مدى عقود من قبل الميليشيات المسلحة ومافيات المال. وكلاهما يرتدي زياً رسمياً. ويسرق من موقع السلطة، ومنطق القانون المفصّل على القياس. غريب أمر هذا الشعب “العظيم” الذي يلحس المبرد، والذي إعتمد أمراؤه تجاهه سياسة التجويع والتخويف، فيبقى صاغراً تحت عباءة الزعيم يتلقف الفتات ويشكر، ولا يخشى “الذبح” على أيدي أبناء الطائفة الأخرى ما دام في حمى “الأمير”.
بلد سيصبح نفطه الموعود نقمة، بدلاً من أن يكون نعمة. فإذا إتفق الأمراء على تقاسم المغانم، ولا يزال الخلاف قائماً وشدّ حبال “البلوكات” حاصلاً، ذهب النفط إلى جيوبهم، ولا ينال الشعب منه سوى رائحته الخانقة. وإذا لم يتفقوا، سينتقل الخلاف حتماً إلى الشارع ، والأحياء، والأزقة بعد إلباسه اللباس المذهبي المقيت.
بلد يعجز نوابه الكرام عن تحقيق سلسلة محقّة للرتب للرواتب. ويتذرّعون بالعجز، وهم يدركون كما آخر مواطن، بأن إستعادة المسروقات من أملاك بحرية “طوِّبت” مرافق سياحية، وجبلية نهشتها الكسارات. ومليارات يطلبون شرعنة نهبها. تكفي لوحدها لتمويل “سلاسل” لا سلسلة. واللائحة تطول.
“يرضى القتيل وليس يرضى القاتل”، وكمّ الأفواه تقليد جديد، يجلدون الشعب ويمنعونه من الأنين فكيف من الصراخ.
الدكتور فرنسوا باسيل يُستدعى إلى التحقيق لا لجريمة سرقة، أو إختلاس، بل لأنه أشار إلى مسؤولية أصحاب الحصانة.
فرنسوا باسيل الذي أسّس إمبراطوية مصرفية، يعتز بها لبنان “يُجّر” إلى التحقيق لأنه أشار، وبتهذيب رفيع، إلى مكامن الخطأ. والتهمة هي المسّ “بكرامات” النواب. نواب الأمة الذين ينتقدهم الشعب كل يوم، ويعود لإنتخابهم صاغراً، مجبراً، محتاجاً. لأنه كما ذكرنا تحت وطأة التجويع، والجوع كافر. والتخويف، والخوف قاتل.
لو شاء فرنسوا باسيل أن يشتري حصانة، لإستطاع بلا شك ولا ريب. فقد عملها الكثيرون وإستثمروا في صناديق الإقتراع، وأجازوا لأنفسهم ما لا يجوز.
هذا هو لبنان العظيم.
سبعون مليار دولار ديون على بنى تحتية لم تكلف فعلياً خمس تكاليفها.
عشرة مليارات دولار صُرفت على الكهرباء، ولا كهرباء. عشرة آلاف كليومتر مربع كناية عن إمارات متصالحة حيناً ومتنازعة أحياناً. وحاكم الإمارة وعائلته شركاء مضاربون لكل مستثمر في صناعة أو زراعة أو سياحة أو تجارة…
يعجز المجلس النيابي الكريم عن إنتخاب رئيس للجمهورية، ويعجز عن إقرار قانون إنتخاب جديد يتوافق مع تطلعات اللبنانين وبعيد تكوين السلطة. لماذا ؟ يتساءل البسطاء. والجواب واضح. الأمر لم يصل بعد من الخارج. ومن موّل المعركة “الديموقراطية” لم يقرر بعد. ومن يدفع يأمر Qui donne ordonne.
في نهاية محاضرة تشرفت بالقائها، أمام سفراء الدول الآسيوية عن “الربيع العربي” الذي أمسى إعصاراً، وعواصف، ورياحاً عاتية. سؤلت عن لبنان وهل هنالك من حلّ لمشاكله السياسية والإقتصادية والمانية؟ الجواب كان واضحاً. بإنتخاب مجلس تمثيلي صحيح على أساس النسبية، ثم إرساء الدولة المدنية، وتكوين السلطة القضائية المستقلة، التي تطبّق القوانين الجاهزة الموضوعة على الرفوف من دون وجل أو خجل أو محاباة.
قديماً قيل أنه ليس في لبنان “أزمة نصوص بل أزمة نفوس”. هي أزمة أخلاق بكل بساطة، والسلطة في القاموس اللبناني هي تسلط ومصدر ثروة. ولا من حسيب ولا من رقيب. كان الناس يتساءلون جهراً، وغداّ وبعد كمّ الأفواه سيتساءلون همساً، أين أصبح المجلس الدستوري؟ وكم من نيابة طعن بها؟ وكم من قانون أعاد منذ تأسيسه؟ أين أصبح قانون محاكمة الرؤساء والوزراء والمسؤولين؟ وهل نفذ مرة واحدة؟
أين قانون من أين لك هذا؟ مهزلة كبيرة وضحك على الذقون.
صحيح أن الرأي العام كما قال الراحل الكبير “سعيد تقي الدين” هو “بغل”. إلاّ أنه ليس على هذه الدرجة من الغباء. في جولة صغيرة في بيروت “المحروسة”، يرى الناس البنايات الشاهقة بأسماء مقاولين ما هم إلاّ “برفان” للمالكين الحقيقيين. هذا في لبنان بلد “الشفافية” و”النزاهة” الذي غادرته نخبة إلى دول القانون وعلى سبيل المثال لا الحصر . أخبرتنا “هيلاري كلينتون” في كتابها الأخير، أن زوجها غادر البيت الأبيض عام 2000 يحمل ديوناً باهظة لمصلحة الضرائب تتجاوز قيمتها ممتلكاتهما معاً. وفي فرنسا أخبرني أخي الدكتور البروفسور محمد جابر، اللبناني الوحيد في مجلس الدولة الفرنسي “Conseil d’etat” أن ممتلكات الرئيس وأعضاء الحكومة وكافة المسؤولين من منقولة وغير منقولة، حتى الشقة ومحتوياتها ونوع وقيمة السيارة والدراجة، أصبحت على الإنترنت وفي متناول أي مواطن. وأي غش في إعطاء المعلومات يعرّض السياسي للسجن والغرامة، “جاك شيراك” متهم بإستغلال النفوذ و”نيكولا ساركوزي” يتم توقيفه ويطلق بكفالة وكلاهما في دائرة التحقيق.
إن ما ذكر ما هو إلاّ غيض من فيض ، فهل نحلم يوماً أن نصبح كالآخرين؟
وهل الصورة قاتمة إلى هذا الحدّ ؟ الجواب لا. لأن الدنيا لا تزال بألف خير، ولا يزال في لبنان رجال شرفاء، سواء في المجلس النيابي، أو في الحكومة، أو في سائر مرافق السلطة. ويذكر التاريخ الرئيس الراحل “فؤاد شهاب” الذي رفض إعفاء سيارة زوجته من الرسـوم الجـمركية، وهو في سـدة الرئاسة. ويتذكر الشرفاء من اللبنانين، كيف أن الرئيس “حسين الحسيني” رفض المساومة على أملاك الدولة في “السوليدير” لقاء عشرات الملايين. والرئيس “سليم الحص” الذي سجّل طائرة خاصة أهديت له بإسم مجلس الوزراء ، ويقطن حالياً في شقة متواضعة. وربما لا يعلم الكثيرون أن وزيرا ً سابقاً للمال، إسمه “جورج قرم” ليس لديه سائق. وليعذرنا السياسيون الشرفاء الذين فاتنا ذكرهم لضيق المجال.
ومن الآن إلى تاريخه هل يسمح لنا بالنقد والانتقاد أو الصراخ، عند تلقي ضربات السوط؟ أم أن كم الأفواه قد بدأ، والنيابة العامة بالمرصاد؟
رحم الله الجنرال “سراي” المفوض السامي الفرنسي في عشرينات القرن الفائت، الذي قال لخلفه قبل رحيله “تستطيع أن تفعل ما تريد باللبنانيين شرط أن تسمح لهم بقول ما يريدون” .
ويظهر أن كلمة “تسمح” ألغيت من هذه المعادلة.
وعفواً فرنسوا باسيل . أنتم السابقون ونحن اللاحقون لأننا لن نسكت.

• عميد ركن متقاعد في الجيش اللبناني ورئيس مركز دراسات الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة في بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى