الجزائر: قانون الإعلام الجديد ليسَ أكثر من مُناوَرةٍ للعلاقات العامة

لم تَعُد وسائلُ الإعلامِ الجزائرية في مساحةٍ ترى فيها المواجهة بين أفكارٍ ومشاريع مختلفة. صوتٌ واحدٌ مَسموحٌ به: الصوتُ الذي يقول إنَّ كلَّ شيءٍ يَسيرُ على ما يُرام في البلاد.

الإعلامي إحسان القاضي: سُجِن لأنه تلقّى دعمًا ماليًا من ابنته المقيمة في لندن!!!

سلامة عبد الرحمن*

في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، اعتَمَدَ مجلسُ الأمّة الجزائري قوانينَ جديدة تُنَظِّمُ الإعلامَ والصحافة اقترحتها حكومة الرئيس عبد المجيد تبون. ووصف محمد العَجَب، وزير الاتصال الجزائري، مجموعةَ القواعد الجديدة بأنها “أفضلُ قانونٍ في تاريخ الجزائر المُستقلّة” للمهنة.

صادرٌ من حكومةٍ بذلت الكثير من الجُهدِ لمُصادَرة حرّية التعبير وترويض الصحافة المستقلة في الجزائر، كان حماس الوزير العَجَب هزليًا تقريبًا. منذ وصوله إلى السلطة في العام 2019، عبر ما اعتبره العديد من الجزائريين انتخابات غير شرعية، أشرفَ تبون على واحدة من أكثر الحملات عدوانية ضد حرّية التعبير والمعارضة السياسية منذ عقود. ووفقًا لمنظمة العفو الدولية، فقد اعتقلت السلطات الجزائرية أو احتجزت 11 صحافيًا وإعلاميًا خلال العامين الماضيين فقط.

يقول حسن والي، الصحافي المخضرم الذي يتمتّعُ بمسيرةٍ مهنية طويلة في بعض الصحف الجزائرية التي كانت ذات يوم رمزية، بينها “لا ليبيرتيه”” (La Liberté) و”الوطن”: “في أعقاب حركة الحَراك الاحتجاجية في العام 2019، شهدنا تصفية حرية الصحافة. لم تكن لدينا من قبل مثل هذه البيئة الإعلامية المُدَجَّنة التي لدينا اليوم”.

هذا التدجين هو نتيجةُ القمع الحكومي المُكَثَّف. لا يزال النشطاء يواجهون مخاطرَ قانونية للتعبير عن المُعارَضة على وسائل التواصل الاجتماعي. لا تزال المواقع الإلكترونية والمنصّات الإخبارية على الإنترنت، التي أجرت تحقيقاتٍ حَولَ الإنفاقِ الحكومي المشكوك فيه، محظورة أمام مستخدمي الإنترنت داخل البلاد. وترفضُ شركاتُ ومؤسسات الدولة الإعلان في الصحف التي تنتقد الحكومة. وبشكلٍ عام، تظل الصحافة عرضةً لأهواء النظام القضائي الذي لا يزال بعيدًا من الاستقلال.

احتفلَ مُؤيّدو الحكومة بحقيقةِ أنَّ قانونَ الإعلام الجديد يُلغي ما كان يُعتبَرُ سابقًا “جريمة الصحافة” وما يرتبط بها من أحكامٍ بالسجن. من الناحية النظرية، يعني هذا أن الصحافيين لن يُزَجَّ بهم في السجن بعد الآن بسبب ما يكتبون أو يقولون. لكن من الناحية العملية، فإنَّ هذا لن يَمنَعَ الحكومة من إسكاتِ المُنتَقِدين، كما يَتَّضِحُ من حالَتَي إحسان القاضي ومصطفى بن جامع، وهما صحفيان يقضيان حاليًا أحكامًا بالسجن لسنوات عدة.

في نيسان (إبريل)، أُدينَ القاضي بتُهمةِ “تَلَقِّي تمويلٍ من الخارج”، ما أدّى إلى الحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. كما أمرت السلطات القضائية بإغلاق موقع القاضي الإخباري “Maghreb Emergent” وقناته الإذاعية “Radio M”، مع فرض غرامات عليه تزيد على 80 ألف دولار.

وفقًا لدفاعه، استندت القضية المرفوعة ضد القاضي إلى حقيقة أن شركته الإعلامية تلقّت مبلغ 25 ألف جنيه إسترليني، أو ما يزيد قليلًا عن 30 ألف دولار، من ابنة القاضي، المُقيمة في المملكة المتحدة والتي تمتلك أسهمًا في شركة الإعلام التي يديرها والدها. لكن الكثيرين اعتبروا هذه الاتهامات محاولة ذات دوافع سياسية لإسكات صوت القاضي الناقد. ويقولون إنَّ جريمته الحقيقية هي أنه يمتلك ويدير إحدى المجموعات الإعلامية المستقلة القليلة المُتَبَقِّية في البلاد.

في آب (أغسطس)، حُكِمَ على بن جامع، رئيس تحرير صحيفة “لو بروفينسيال” في مدينة قسنطينة الشرقية، بالسجن لمدة عامين بتهمة “تلقّي أموالٍ أجنبية لارتكاب أعمال ضد النظام العام ونشر معلومات سرية”. كما إنه ينتظرُ نتيجةَ عمليةٍ قضائية أخرى تتهمه بمساعدة الصحافية الجزائرية-الفرنسية أميرة بوراوي على الفرار من الجزائر إلى فرنسا.

مع أو بدون قانونٍ جديدٍ للإعلام، ستظلّ السلطاتُ قادرةً على الاستفادة من مجموعةٍ واسعة من الآليات القانونية لمُعاقبة حرية التعبير، بما في ذلك القيود المفروضة على التمويل الأجنبي المُستَخدَم لاستهدافِ القاضي وبن جامع. وهذا يضمن أنه، بغضِّ النظر عن عدد القوانين الجديدة التي تسنّها الحكومة، فإنَّ الصحافيين الجزائريين سيستمرون في مواجهة مضايقات في ظلِّ النظام الحالي ما لم يَتَّبعوا خطَّ الحكومة.

وهذا ليس بالأمر الجديد في الجزائر، حيث واجه الصحافيون ووسائل الإعلام فترات متناوبة من القمع والانفتاح من قبل. في العام 1989، أدّت احتجاجات الشوارع الناجمة عن انخفاضِ أسعار النفط والوضع الاقتصادي المحفوف بالمخاطر إلى نهاية نظام الحزب الواحد في الجزائر بعد الاستقلال. وكانت فترة التحرير السياسي والإعلامي التي تلت ذلك بمثابةِ أمل. وظهرت منظّماتٌ سياسية وصحف ومجلات جديدة، تُقدّمُ مجموعةً متنوِّعة من الخطاب السياسي والمدني بعد عقودٍ من ضبط النفس ووسائل الإعلام التي تديرها الدولة.

ولكن بحلول أوائل التسعينيات الفائتة، عندما انزلقت البلاد إلى حربٍ أهلية وحشية بين القوات المسلحة والميليشيات الإسلامية، تم استهدافُ الصحافيين من قبل الجانبين. وقد اغتيل العديد منهم، بينما أُجبِرَ كثيرون آخرون على الفرار أو الصمت.

بدءًا من العام 1999 في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة واستمرارًا حتى إرغامه على ترك منصبه في العام 2019، كان يمكن لوسائل الإعلام مرة أخرى انتقاد الإجراءات والسياسات الحكومية. لكنَّ انتقادَ الجيش أو الأجهزة الأمنية –أصحاب النفوذ الحقيقيين في الجزائر– ظلَّ خطّا أحمر. ومع ذلك، حتى الصحافيين الذين ظلّوا بعيدين من هذا الخط الأحمر كانوا عُرضَةً للمضايقات من قبل قوات الأمن أو السلطة القضائية التي يسيطر عليها النظام، وكثيرًا ما حُرِمَت الصحف والمجلات من الإعلانات الصادرة عن مؤسّسات الدولة عندما تصبح تغطيتها انتقادية للغاية.

وأدّت احتجاجات الشوارع الحاشدة التي نظّمتها حركة ا”لحَراك” والتي أجبرت بوتفليقة على الاستقالة في العام 2019، إلى إحياء وسائل الإعلام الجزائرية. قامت الحركة المُناهِضة للنظام الاستبدادي في الجزائر بحملةٍ للحَدِّ من إشرافِ الجيش على السياسة. لأشهرٍ عدة، تمّت تغطية الاضطرابات الاجتماعية المُستمرّة عن كثب من قبل وسائل الإعلام المستقلة. وكانت أعمدة الصحف وتحليلاتها مليئة بالنقاشات والآراء السياسية حول فُرَصِ ومخاطر الحركة الاحتجاجية وقدرتها على الدفع نحو التغيير السياسي.

لكن بعد ذلك بوقتٍ قصير، عزّزت الانتخابات الرئاسية التي أجراها الرئيس تبون النظام الاستبدادي، الذي أعاد تأكيد سيطرته. بحلول العام 2020، بدأت السلطات استهدافَ التعبيرات المُعارِضة عبر الإنترنت بشدّة. وتحت غطاءِ إجراءاتِ التباعد الاجتماعي في حقبة الوباء، تمكّنت الحكومة من محو وإزالة زخم احتجاجات الشوارع التي جرت في العام الذي سبق، واحتجاز النشطاء الذين شاركوا في حركة “الحَراك”.

ومع تركيز الرئيس تبون الآن على تأمين وضمان فترة ولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية المُقَرَّر إجراؤها في العام 2024، فمن المرجح أن يُصَوَّرَ القانون الجديد على أنه إصلاحٌ مهم. لكن هذا أيضًا لن يكونَ شيئًا جديدًا. يتمتع الحكم الاستبدادي العسكري القمعي في الجزائر بتاريخٍ طويل في الحفاظ على الوضع الراهن لأنه يعطي وَهمَ الإصلاح.

وبغض النظر عن نصِّ القانون الجديد، فإنَّ تأثيره الحقيقي سيعتمد على مراسيم التطبيق المُحَدِّدة، والتي لم تُحَدِّدها السلطات بعد. لكن في الواقع، ربما لن تكون القواعد التنظيمية الجديدة لوسائل الإعلام أكثر من مجرّد مناورة للعلاقات العامة. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وعودة تركيز الاهتمام الدولي على الجزائر، قد يختار النظام العفو عن بعض الصحافيين المسجونين وإطلاق سراحهم كدليل على حسن النية.

لكن كلّ إعلامي محترف في البلاد سيعرف ما هي القواعد المُتَّبعة في الممارسة العملية. يقول والي: “لم تَعُد وسائلُ الإعلام الجزائرية في مساحةٍ ترى فيها المواجهة بين أفكارٍ ومشاريع مختلفة. صوتٌ واحدٌ مسموحٌ به: الصوتُ الذي يقول إنَّ كلَّ شيءٍ يسيرُ على ما يرام في البلاد”.

قانونٌ جديد أم لا، ليس هناك مكانٌ في الجزائر للأصواتِ الناقدة.

  • سلامة عبد الرحمن هو مراسل “أسواق العرب” في الجزائر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى