كامل مروة شهيدُ الحرّية والوطنيّة والعروبة
عرفان نظام الدين*
57 عامًا ًمضت على رحيله وما زال اسم كامل مروة مالك صحيفة “الحياة” مُرفرفًا في السماء يهُّزُّ أركانَ الظُلم والإرهاب والقمع، وسيبقى رمزًا للحرية والعروبة والصحافة الحرة. ففي مساء 16 ايار (مايو) 1966وصلت يد الغدر إلى مكتب المُعلّم المُشَرَّع الأبواب بلا حراسة ولا مُسَلَّحين، وأطلقَ المُجرِمُ رصاصةَ العار على قلبه النقي الطيّب الطاهر وأرداه شهيدًا على مشارف الشرف والفداء.
رأيتُ الشهيدَ وهو يلفظُ أنفاسه الأخيرة وابتسامة الحزن بادية على وجهه لما وصلنا إليه من المُحرّضين الصغار الذين أوصلوا الأمور إلى القاع. فبدلًا من أن يسمعوا تحذير كامل مروة المبني على معلوماتٍ أكيدة عن استعداد إسرائيل لشنِّ عدوانٍ ساحقٍ فخوّنوه واغتالوه لأنه دعا الى استعداد العرب والمسلمين لصدّه فأهملوا وتآمروا، ووقعت هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 وكان ما كان من نكساتٍ مُتتالية ما زالت تدمّر العرب ودولهم الكرتونية.
كان الشهيد مُدافعًا عقلانيًا عن القضايا العربية وقضية فلسطين بالذات، وللحديث صلة في الايام المقبلة، لكني اتذكر أنَّ المُعلّمَ، الذي كنا ننادي الشهيد به، ناداني قبل يومٍ واحدٍ من اغتياله وسألني: ماذا اعددتم لليوم (ذكرى النكبة وقيام الكيان الصهيوني)؟ فأخبرته بأنني اعددت مقالًا عن الذكرى فقال: “لا لا، هذا لا يكفي، يجب التذكير بالقضية كل يوم … خصّصوا صفحةً كاملة وأنا سأُشارِكُ بافتتاحية عنوانها: دمعة حرّى…” هذا غيض من فيض الفقيد وتفاصيله اصبحت معروفة، واكتفي الآن بنشر مقال عن جوانب أُخرى من شيم الشهيد، والمبادئ التي رسّخها لمهنة الصحافة والتوأمة مع الحريات والوطنية.
ما أجمل ذلك الزمن الغابر، الذي وُلِدنا على أنواره وترعرعنا في كنفه، وكم أشعرُ بالسعادة لأني عشت مع أبناء جيلي أيام الكرامة والإبداع والفن الراقي، فتعرّفت عن كثب على عمالقة سجّلوا أسماءهم في دفتر الخلود.
فخرٌ تحوّلَ إلى إحباط، بسبب ما نعاني منه هذه الأيام من أسى وأسف على ما آلت إليه أوضاع العرب، وحالات الإنهيار التي طالت كل منحى من مناحي الحياة.
شرفٌ عظيم منحني إياه الله عزّ وجَلّ بنعمةِ معاصرةِ ذلك الزمن الجميل الذي نتحسّر عليه، وعارٌ كبير لحق بنا، فنحن نصل إلى أرذل عمر العرب، ليس بسبب الحروب والفرقة والتشرذم فحسب، بل بسبب انحسار موجات التنوير وغياب العمالقة الذين ضحّوا وجاهدوا وقدّموا الكثير لأمتهم، فأغنوا حضارتها بروافد عصرية وعطاء متجدّد يُسَجَّل لهم، ويثبت أنها يمكن أن تضاهي أرقى الأمم، عندما تلتفت إلى العلم والمعرفة والإبداع في أجواء الحرية والتضحية، ودعم كل مبدع في مجاله، وتكرّم ذكراه ليكون قدوة للأجيال.
ولا بدَّ من التأكيد بأن مثل هذه الومضات في تاريخ العرب لم تُحقّق الإنجازات إلّا في إطار منظومةٍ متكاملة من القمة إلى القاعدة.
لا أتحدث هنا عن التاريخ البعيد جدًا، بل عن العقود القليلة الماضية.
البيئة الحاضنة للإبداع
وأعتقدُ أنه من المناسب أن أحدّد بعض العوامل والمقوّمات والقواسم المشتركةً التي جمعت بين هذه الرموز وأسهمت في انطلاقتهم ودعمهم ونجاحهم، وهي كما رسّخ جذورها الشهيد كامل مروة:
أولًا – توفير البيئة الحاضنة للإبداع، أي مدّ اليد إلى المبدع ومساعدته على شقّ طريقه بسلام. ففي البدء كان هناك ملاكٌ حارس يقف وراء كل من يجد فيه بذور الإبداع والعطاء، هو كما نسميه “المعلّم” الذي يشرف على التأهيل والتعليم وتوجيه النصائح وتصحيح الأخطاء وتمهيد درب الأمل للأجيال المقبلة، وكان من حسن حظي أن وضع الله في طريقي؛ في بداية الطريق الطويل؛ المعلم الذي أمسك بيدي وأشرف على كل شاردة وواردة .
هذا المعلّم كنا نجده في كل مكان ومجال: الشعر والأدب والطرب والفن والصحافة، ومهمته تتركّز على صقل المواهب وتأمين مقومات النجاح، وهو ما نفتقده هذه الأيام، وصرنا نشهد نقيضًا له، يقوم على معاداة كل موهوب، وزرع الألغام والعقبات في طريقه، وشن حملات تسعى إلى تحطيمه وفق مبدَإٍ معروف، يقول: نحن نحارب الناجح حتى يفشل، بينما الأمم الأخرى تساعد الفاشل حتى ينجح.
ثانيًا – توفير متطلبات النجاح والإبداع، بدءًا من حفظ القرآن الكريم، وإتقان اللغة العربية ومخارج الحروف، وحفظ عيون الشعر، وقراءة مئات الكتب الأدبية والفلسفية العربية والأجنبية، ما يستدعي إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل.
وبعد مرحلة التأهيل تبدأ مهمة المعلّم في التركيز على المجال الذي يتفوّق فيه المبدع، ليكمل ثقافته.
رابعًا – تجنب الدخول في مهاترات ومعارك وخلافات ومعارك.
أبطال خلدهم التاريخ
وبغض النظر عن التفاصيل المعلنة والمكتومة لجرائم الاغتيالات، وهول الفاجعة وانعكاساتها الخطيرة، فإن علينا تجاوز الجراح والتعمق في أبعادها والعودة إلى الوراء لعشرات السنين، واستعراض الأحداث الدامية والاغتيالات الوحشية التي طالت رجال الصحافة والإعلام والفكر، منذ اغتيال الشهيد كامل مروة مالك صحيفة “الحياة”، مرورًا بالشهداء سليم اللوزي وجبران تويني وسمير قصير ونقيب الصحافة اللبنانية رياض طه ورسام الكاريكاتور الشهير ناجي العلي والإمام موسى الصدر والصحافي عباس بدر الدين (اختفى مع الصدر)، وعشرات الصحافيين والمراسلين في الحروب التي وقعت في العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها.
والسؤال المطروح اليوم هو: ماذا جنى من حرّضَ وخطّطَ ونفّذَ مثل هذه الجرائم؟ وهل نجح في كتم الأنفاس وحقق ما يبتغي، أم أن السحر قد انقلب على الساحر؟ فكانت النتيجة الوبال والثمن الباهظ، بينما تحوّل الشهداء إلى أبطال خلدهم التاريخ.
لهذا لا بدَّ من إعادة النظر في العالم العربي بالخطاب السياسي والمفهوم الوطني وفي كل السياسات والممارسات المتعلقة بالعلاقة المضطربة بين المواطن والوطن والسلطة، وتصحيح العلاقة بين السلطة والإعلام، والموالاة والمعارضة، بعد العمل وفق أبعاد الكلمة السحرية التي تحل المشاكل والأزمات، وتحقق الاستقرار والسلام الداخلي.
إنها الحرية التي علينا احترامها، على أن تكون مسؤولة وهادفة ومجرّدة من كلِّ غرضٍ هدّام أو مسيء للوحدة الوطنية، وعندما تحترم الحرية ينجح الحوار ويجري بسلاسة وهدوء، والله عز وجل وجّهنا بقوله: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، و”جادلهم بالتي هي أحسن”.
هذه هي بعض الخطوط العامة لخارطة طريق الإبداع التي كانت سائدة ورسّخها شهيدنا الغالي كامل مروة، وينبغي التقيّد بها، حتى نستعيد أمجاد الماضي ونعود إلى عطاءات ذلك “الزمن الجميل”، وتخريج دفعات جديدة من العمالقة الذين تفتخر بهم الأمة وتتباهى بانجازاتهم في العالم.
- عرفان نظام الدين هو كاتب، صحافي ومُحلل سياسي مُقيم في لندن. كان سابقًا رئيس تحرير صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية.