إسرائيل والغَرَقُ في “مُستَنقَعِ” غَزَّة

الدكتور ناصيف حتّي*

اهتَزَّت صورةُ إسرائيل التي لا تُقهَر، وتحديدًا سَمعَةُ أجهزتها الإستخباراتية والعسكرية والأمنية منذ نجاح حركة “حماس” في تَحقيقِ عمليةِ الاختراق العسكرية التي قامت بها. عُنصُرُ المفاجأة شَكّلَ سقطةً مدوّية ليس فقط لسَمعَةِ تلك الأجهزة فحسب، بل لمفهومِ الأمنِ القومي الإسرائيلي المُحَصَّن خير تحصين. ويبدو الإرتباكُ على أشدّهِ بين التهديد بالغزو فورًا والذي يتكرّر، وتأخير تنفيذ ذلك القرار إدراكًا لصعوبة، إن لم يكن استحالة، تحقيق تلك الاهداف التي اعلنتها إسرائيل. وللتذكير أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يواف غالانت عن اهدافٍ ثلاثة: القضاء على “حماس”، تدمير قدراتها العسكرية والأُخرى والإزالة الكاملة لجيوب المقاومة، وإقامةُ نظامٍ أمني جديد في القطاع. وقد قال غالانت أنه سيتمّ تحقيق ذلك في فترة تتراوح بين شهرٍ وثلاثة أشهر.

وتُهدّدُ إسرائيل بأنها ستقومُ بعمليةِ احتلال شمال غزة فقط، لأنه من شبه المستحيل احتلال كافة أراضي القطاع، فدونه الكثير من الصعوبات. فهو إذا تمَّ فستؤدي إلى استنزافٍ كبير ومستمر للقوة الإسرائيلية المحتلة خصوصًا في ظلِّ التعبئة الفلسطينية الحاصلة حاليًا والتي ستزداد زخمًا مع الاجتياح إذا حصل. اللجوءُ إلى استراتيجية “الهجوم المُتكرّر” (غزو وانسحاب) بقوة نارية قصوى لن تاتي أيضًا بالنتيجةِ المُعلَن عنها إسرائيليًّا، أي هزيمة “حماس” و”إخراجها كُلِّيًا من الملعب”. السيناريو الأكثر واقعية قوامه تصعيدٌ كُلِّي للقتال والعدوان الواسع على القطاع في حربٍ مُمتدّة في الزمان، ومن غير المُستبعَد أن تمتدَّ في المكان ولو بأشكالٍ أخرى، أقل ضراوة في البداية، مُقارنةً مع الحرب ضد قطاع غزة. وقد بدأنا نشهدُ إرهاصاتِ هذا السيناريو مع ازديادِ أعمالِ المقاومة والمواجهة للاحتلال بأشكالٍ مختلفة في الضفة الغربية، وبخاصة في ظلِّ ازديادِ أعمالِ العُنفِ والاعتداء من قبل المستوطنين على السكان الفلسطينيين.

خلاصةُ القول أنَّ إسرائيل وضعت السقف عاليًا في ما يتعلّق بأهدافها من هذه الحرب، وهي أسيرةُ وَضعٍ قوامه أنها غير قادرة على تحقيقِ الأهداف التي أعلنتها وتُكرّرُ التأكيد عليها. على صعيدٍ آخر، فإنَّ الانحيازَ الأعمى  للموقف الأميركي بشكلٍ خاص، ومعه الأوروبي بشكلٍ عام، إلى جانب إسرائيل في “تفهّم” وبالتالي شرعنة الحرب الإسرائيلية أفشل حتى الآن محاولة البحث الجدّي في العمل على وقف الحرب الدائرة وولوج باب التهدئة. موقفان عربيّان مهمّان للقوى العربية التي انخرطت في عملية وقف الحرب الدائرة. الحربُ التي ستؤدّي إذا استمرّت، وبالطبع تصاعدت، إلى مزيدٍ من التعقيدات والتوترات ليس فقط على الصعيد الفلسطيني الإسرائيلي بل على الصعيد الإقليمي مُستقبلًا بتداعياٍتٍ مُكلفة للجميع.

تمَّ إلغاء القمّة الرباعية، التي كان من المُفترَض أن تجمع قادة مصر والأردن والسلطة الفلسطينية مع الرئيس الأميركي جو بايدن، كرسالةٍ بشأن موقفه الداعم بشكل غير مشروط للعدوان الإسرائيلي. الموقف الآخر برز في الخلاف العربي-الغربي بشكلٍ خاص في “قمّة السلام” التي دعت إليها واستضافتها القاهرة حيث كان هناك إصرارٌ من الأطراف الغربية الأساسية المُشارِكة على تضمين البيان “التفهّم” وبالتالي التبرير للأعمال العسكرية الإسرائيلية ضدّ قطاع غزة رُغمَ الخسائر البشرية الكبيرة لهذا العدوان مما لم يسمح للقمة في حقيقة الأمر تحقيق هدفها الأساسي لأنها لم تستطع التوافق على بيانٍ لوقف القتال بسبب هذا الانحياز الغربي، وبالتالي الاتفاق على خطوطٍ عامة لخطةِ عملٍ للتهدئة والذهاب نحو إحياءِ المسار السياسي للتسوية السلمية للنزاع. مسارٌ رُغمَ العوائق الكثيرة أمامه، لكنه يبقى الطريق الوحيد لإنهاء حالة الحرب والاحتلال وإحلال السلام وفق القرارات الدولية ذات الصلة. وتبدو هنالك قطيعة واضحة وفاضحة بين تكرارِ مُجملِ القوى الغربية إعلان دعمها لعملية السلام ولحلِّ “الدولتين اللتين تعيشان جنبًا إلى جنب” من جهة، وبين الانخراط المطلوب منها بشكلٍ واضحٍ وحازمٍ لوقف الحرب من جهة أخرى. وهنالك العديد من صيغ التعاون التي يمكن بلورتها إذا توفّرت الإرادة ومعها الحزم لولوج ذلك الطريق للتشجيع والتحفيز بغية إحياء ومواكبة عملية المفاوضات المطلوبة التي تبدأ بوقفِ القتال وباتخاذِ خطواتٍ عملية لخفض التوتر وتبريد الجبهات وفك الاشتباك، والذهاب بعد ذلك نحو المفاوضات السياسية على أساس المرجعيات التي أشرنا إليها سابقًا، لإحلال  السلام الشامل والعادل والدائم وفتح صفحة جديدة من العلاقات في الإقليم تُساهم في الاستقرار والازدهار لكافة دوله وشعوبه .

وحقيقةُ الأمر إننا اليوم أمامَ سباقٍ بين محاولات إسرائيل فرض واقعٍ جديد في الصراع يُهدّدُ أيَّ أملٍ بالتوصّل إلى السلام المَبني بشكلٍ أساسي، وضمن شروطٍ أُخرى، على تحقيق الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني من جهة، وبين إيقاف هذه السياسة، الحاملة والواعدة بمزيدٍ من الحروب والدمار من جهة أخرى، وليس ذلك بالأمر السهل خصوصًا مع أحزاب الصهيونية الدينية المتشدّدة والمُمسِكة بالسلطة في إسرائيل؛ ليس بالأمر السهل ولكنه يبقى بالأمر المُلِحّ والضروري والواقعي والمبدئي لبناءِ شرق أوسط جديد طال انتظاره. وعلينا أن نُدرِكَ، كما يدلُّ الكثير من المؤشّرات، أنَّ الانتظارَ سيطول، في ظلِّ مخاوف من توسّع الحرب على الصعيد الإقليمي، من دون أن يسقط ذلك الهدف الذي قوامه اساسًا إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى