الحَربُ الإسرائيلِيّة وآفاقُها

دكتور ناصيف حتّي*

تبدو الحربُ الإسرائيلية ضدّ غزة مستمرة بدونِ أيِّ أُفُقٍ زمني معروف أو يُمكِنُ تقديره، طالما أنَّ إسرائيل مُتَمَسِّكة بالأهدافِ غير القابلة للتحقيق التي رفعتها منذ اليوم الأول. يُشَجّعها على ذلك للأسف موقفٌ أميركي ومعه الكثير من الدول الغربية، ولو بدرجاتٍ مختلفة من حيث التأييد للموقف الاسرائيلي، في رفضِ وقفِ إطلاق النار وإكمال الحرب، حربُ “إلغاء حماس في غزة”. ويُستَبدَلُ ذلك بهُدَنٍ إنسانية، أو من خلالِ بَلوَرَةِ مَفهومٍ جديدٍ عُرِفَ “بالتوقف (pause) الإنساني” لعددٍ من الساعات يوميًا. تعملُ إسرائيل على إحداثِ تغييرٍ ديموغرافي ضمن القطاع من خلال دفعِ السكان من شمال القطاع نحو جنوبه باعتبارِ أنَّ ذلكَ يُسَهّلُ العملية العسكرية الإسرائيلية لتحقيقِ أهدافها بإقامة نظامها الأمني في القطاع بعد التخلّص كُلِّيًا من “حماس”. وقد بدأ البحثُ، إسرائيليًا بشكلٍ خاص، بالصيغة السياسية الإدارية التي ستتولّى مسؤولية القطاع بعد تحقيق الأهدافِ الإسرائيلية التي أُشيرَ إليها. صيغةٌ يجري الحديث حول مَن تكون أطرافها من فلسطينية وعربية ودولية. كلّها طروحاتٌ ترفضها الأطراف التي يُشارُ إليها، بالاسم أو بشكلٍ غير مباشر ولكن واضح، للمشاركة في إدارة القطاع بعد تحقيق الأهداف الإسرائيلية، باعتبارِ أنَّ دورَ هذه الأطراف سيكون شَرعَنة الاحتلال الإسرائيلي غير المباشر، بعد التخلّصِ من “حماس”. الاحتلالُ الذي سيبقى مُمسِكًا كلّيًا بالوضع على الأرض. ويذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنَّ “الجيشَ (الإسرائيلي) سيظلّ مُسَيطرًا على غزة بعد الحرب ولن يُسلّمها إلى قوةٍ دولية”.

إستمرارُ حرب الدمار والقتل الإسرائيلية ضد غزة لتحقيق أهدافٍ لا يُمكنُ لأسبابٍ موضوعية وواقعية تحقيقها، لا بل إنها ترفعُ من مستوى التوتر والصراع والذهاب نحو المجهول، أدّى إلى ازديادِ ردود فعلٍ شعبية، من منظورٍ أخلاقي وإنساني ومبدَئي وقانوني. ردودٌ أخذت في الانتشار على الصعيد العالمي، وفي الدول الغربية بالطبع، مُعارِضةً بقوة لاستمرار هذه الحرب. يُشكّلُ ذلك مع الوقت عُنصرَ ضغطٍ على الدول التي ما زالت تؤيدُ استمرارَ الحرب من خلال رفضها للوقف الفوري والكلي لإطلاق النار وذلك للبدء بمراجعة مواقفها ولو بشكل تدريجي ومحدود، ونظرًا لما لهذه الحرب، إذا استمرّت، من مخاطر على الإستقرار والأمن على المستوى الإقليمي والذي هو مصلحة دولية ايضًا، ولو لأسبابٍ مختلفة بين القوى الدولية المتنافسة أو المتصارعة. بدايةُ التغيُّر، عند هذه القوى، متى حصل لن تكون نتائجه مؤثرة بشكلٍ آنِيٍّ بالطبع ولكنها تخدم هدف الاستقرار ووقف الدمار.

تحصل وتتصاعد الحرب الإسرائيلية ضد غزة فيما نرى مزيدًا من الاعتداءات والأعمال العنيفة التي يقوم بها المستوطنون في الضفة الغربية ضد المواطنين الفلسطينيين بغية تهجيرهم بوسائل متعددة. سياسةٌ تندرجُ في الاستراتيجية الرسمية والمُعلَنة للحكومة الحالية التي تهدفُ إلى تسريعِ استكمالِ تهويد الضفة الغربية أرضًا وشعبًا، وتحقيق حلم أو هدف إقامة إسرائيل الكبرى. والكثير من المؤشرات تدل على احتمال تصاعد درجة التوتر وانتشاره في الضفة الغربية .

كما إنَّ مخاطرَ توسّعِ الحرب إلى جنوب لبنان ما زالت قائمة، رُغمَ أنَّ قواعدَ الاشتباك التي تبلورت غداة حرب ٢٠٠٦ لم يتم إسقاطها، ولو أنها شهدت وتشهدُ تصعيدًا تدريجيًا مُقَيَّدًا حتى الآن مع ازدياد التوتر وتصاعد القتال حدّةً ومساحةً وأهدافًا. “حزب الله” لا يريد تكرار “سيناريو ٢٠٠٦”، ويلجأ إلى استراتيجية “المُشاغلة والمساندة” كعنصرٍ ضاغطٍ على إسرائيل في ما يتعلّق بحربها المفتوحة على غزة. وإسرائيل من جهتها لا ترغب توسيع الحرب، لأنها لا تستطيع لأسبابٍ عسكرية بالطبع، فَتحَ جبهتين في الوقت ذاته. فالتصعيدُ المُتعَدّدُ الأبعاد، كما أشرنا سابقًا، يندرجُ في “لعبة” الردعِ المُتبادَل، من دون أن يعني ذلك عدم وجودِ احتمالٍ للانزلاق نحو تصعيدٍ مفتوح، قد لا يُمكن احتواؤه إذا حصل.

فهل ستتحرّك القوى الغربية الصديقة لإسرائيل للأسباب التي أشرنا إليها أعلاه لتغييرِ موقفها والدفع نحو وقفِ إطلاقِ النار لتَلافي إمكانية الذهاب إلى حربٍ مفتوحة في الزمان وتدرّجًا في المكان؟ حربٌ تكون تداعياتها سلبية على الجميع بأشكالٍ وأثمانٍ وأوقاتٍ مختلفة؟ ويبرز في هذا الخصوص دور اللجنة  الوزارية التي انبثقت عن القمة العربية الإسلامية لهذا الهدف، في العمل على دفع القوى الدولية الفاعلة للضغط على إسرائيل للتوصّل بدايةً إلى وقفِ إطلاقِ النار. إنه الشرطُ الضروري، ولكن غير الكافي بالطبع، لولوجٍ تدريجي لبابِ العملية السياسية لتحقيق السلام حسب القواعد والقرارات الدولية والمبادىء المعروفة. عمليةٌ دونها الكثير من الصعوبات والعوائق ولكنها تبقى أكثر من ضرورية لتحقيق السلام الشامل والعادل والدائم في المنطقة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى