نَجمان وحُفرَتان

القاضي منير حنين

رشيد درباس*

من حُفرةٍ في ” دير القمر” يمتدُّ ممرٌّ من الضوء، مُتَّصَلٌ في اليوم التالي بحفرةٍ أُخرى في ترابِ مدينة “الحدت”،  ليُشَكِّل مسرى تواصلٍ في باطن الأرض الحميم بين راحِلَيْن أبليا على سطحها عدالةً وكرامة، ثم تواريا كنجمتين أدركهما فجر الخلود.

“الأوّل” منير حنين (le premier)، الذي تقلّبَ في المناصب القضائية إلى أن تبوَّأ أعلاها، فما غادرته الدماثة الرصينة، ولا خذلته الشجاعة في أحلك الظروف، ومنها ما شهدته عيناي وها أنا أُشْهِدُ أسطري عليه، يوم استجاب بعض القضاء للرغبات السياسية انتقامًا من بعض الناشطين السياسيين، فلقد وقف ينظر باستهجانٍ من نافذته في قصر العدل إلى القمعِ المُفرِطِ الذي مارسه رجال الأمن بحق الشباب والطلاب، ولما أُحيلَ  المحتجون إلى المحكمة العسكرية ومنهم محاميان من نقابة طرابلس هما النائب السابق إيلي كيروز، والنائب الحالي جورج عطالله، اتصلتُ به بصفتي مُكَلَّفًا مع فريقٍ من زملائي للدفاع عنهما، وشكوتُ له صعوبة الحصول على وكالةٍ من كلٍّ منهما في مكانِ حجزهما، فأحالني على القاضي النبيل رالف رياشي، رئيس محكمة التمييز آنذاك الذي أفادني بأنه سيعتمد تكليف نقيب المحامين لي بالدفاع عن الزميلين بمثابة توكيل رسمي، وبعد هذا أبطل قرار الاتهام في حكم مرجعي، جاوز مقدار الشجاعة والنهى.

كان  منير حنين بالنسبة لي أميرًا، وكنت أناديه بهذا اللقب، في الوقت الذي لم أخاطب فيه النقيب عصام خوري إلّا “بالمُعَلّم” لأنه كان يُملي على أبنائه وإخوانه دروسه حتى في طريقة السير والسلام والابتسام والحزم المرافق لصفاته كلها. هو عميدُ النقباء عمود العدالة والمحاماة، ونموذج الوزير الذي شرّفَ الحُكمَ بأدائه،  وصديق الكلمة الطيِّبة، وصائغ نصوص الذهب، ومُحب اللغة والشعر، وقد كان يقرضه بينه وبينه حتى لا يقال بأنَّ لعابه يسيل على ديوان العرب، ولكنه في الواقع كان من حفظته القلائل، ومن أعمق من فهم الأبيات وعجم عودها وفرّقَ بين غثّها والسمين.

أهداني “هوى لبنان” فقرأتُ فيه  بيتًا من تأليفه يقول:

غذيتها بدم الشباب وطييه  وهَرقتُ في أهوائها أفراحي

فكأني به يخاطب المحاماة بلا مواربة، لأننا لا نزال نرى آثار دماء شبابه في محياها، فهو القائل “بإن الإنسان يقاس بما يدرك لا بما يملك”، وعندما عدت إلى كتاب “هامات وهالات” أيقنتُ أنني أقرَؤه هامةً عالية، وهالةً تنتظر الأفول.

كانا نجمين أنفقا ما في وسعيهما من ضوءٍ في الليل الدامس، فلمّا طلع الصباح على ما تُعانيه العدالة، آثرا الهجوع…

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى