لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (22): المسيحيون لدَفعِ القُروش والدروز لحَملِ السيوف!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سليمان الفرزلي*

مِن وَقتٍ إلى آخر، يدورُ في لبنان حديثٌ عن ضرائب الدولة وجبايتها. وتَعُمُّ الشكوى لأنَّ فئةً من اللبنانيين تُسَدّدُ ما عليها من ضرائب أكثر من غيرها. ويُشار بالبنان إلى المجتمع المسيحي الذي يَلتَزِمُ السداد، والجباية فيه أسهل، بينما يتهاون غيرهم ويتمنّعون. حتى أن الجُباةَ لا يتجرَّؤون على دخولِ مناطق مُعيَّنة، خوفًا من أن يقومَ فقراؤها بالاعتداءِ عليهم وإهانتهم وتعزيرهم.

والأغلب على الظن، أنَّ هؤلاءَ الجُباة يتذرّعون بذلك لتبريرِ عدم الجباية!

ناهيكَ بعمليات التلاعب بالدفاتر، خصوصًا في أرقامِ الأرباح وجداء حساباتها، إلى جانب التهرّب من ضريبة القيمة المُضافة!

هذا الكلام، يندرج في سياقٍ تاريخي، يعودُ إلى زمن الدولة العثمانية.

ففي سنة 1821، انفجرَ الوضعُ في جبل لبنان عندما طلبَ عبد الله باشا، والي عكا، من الأمير بشير الشهابي الكبير زيادة الضرائب على رعاياه، فتردّدَ أمير البلاد، لأنه كان يعرف مدى كراهية الناس لإرهاقهم بالضرائب، لكنه في النتيجة استسهل الجباية من المسيحيين، الذين عادوا فانتفضوا، وتمرّدوا، وشكّلوا ما سُمِّيَ “عامية أنطلياس”، وقد استمرت حتى حملة ابراهيم باشا المصري، التي أطاحت والي عكا.

وكانت فكرة “عامية أنطلياس”، تجربة رائدة، قلدها الفرنسيون في “كوميونة باريس”، خلال ثورة العام 1848.

في الزمن العثماني، أيضًا، لم يقتصر فرضُ الضرائب على عامة الناس، إنما، شمل الأديرة المسيحية، التي كان الرهبان فيها، يقومون بأعمالٍ إنتاجية. ولذلك سرى بين الناس في جبل لبنان مثلٌ يقول: “المسيحيون لدَفعِ القروش والدروز لحَملِ السيوف”، (رسالة إغناطيوس سركيس-“مجلة أوراق لبنانية”).

في الحربِ الأهلية في لبنان الصغير في العام 1860، كما في لبنان الكبير في العام 1975، يتشابه الموقفُ الجنبلاطي بين سعيد جنبلاط وبين وليد جنبلاط لجهةِ حَملِ السيوف وإعمالها في رقاب المسيحيين خلال الحربَين، بُغيةَ تهجيرهم. وكلاهما اعتمدَ على قوةٍ خارجية: سعيد جنبلاط اعتمد على الصدر الأعظم العثماني خورشيد باشا، الذي أوصى الزعيم الجنبلاطي “إبادة المسيحيين إبادة كاملة في جبل لبنان والبقاع”. وهذه التوصية، حسب التقارير الديبلوماسية في حينه، أدّت إلى مجازر عديدة شملت دير القمر، وجزين، وحاصبيا، وراشيا، وزحلة، وبلدات وقرى أخرى.

جاء في كتاب القنصل الروسي في بيروت قسطنطين فاسيلي “سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني” عن الهجوم على زحلة بقيادة شبلي آغا العريان ما مفاده: “لو لم يدافع الأمير خنجر بن ملحم الحرفوشي (من زعماء شيعة بعلبك) عن شعاب زحلة ومداخلها، لاجتاح الدروز كل لبنان”. وكان القنصل فاسيلي يهتمُّ بدراسة موضوع الأقليات مُرَكِّزاً بشكلٍ خاص على الدروز في سوريا ولبنان.

أما وليد جنبلاط في حرب 1975، خلال فترةٍ حرجة بين انسحاب القوات الإسرائيلية من الجبل ودخول القوات السورية، فقد اعتمد حسب قوله على “جيش حكمت الشهابي”. وإذا كان معروفًا مَن هي الجهة الخارجية التي أوصت سعيد جنبلاط بإبادة المسيحيين، فإنه من غير المعلوم على وجه اليقين مَن هي الجهة التي أوصت وليد جنبلاط بتهجيرهم. وفي الخلوة التي عقدها سيد المختارة مع كبار شيوخ الطائفة، وصف فيها الموارنة بأنهم “جنسٌ عاطل”، (بعد حوادث بيروت في السابع من أيار/مايو 2008)، قال له أحدهم عن المعارك مع مقاتلي “حزب الله”: “لقد أدمينا أنوفهم”، فأجابه جنبلاط: “وماذا عن غدٍ وبعد غد”.

والمعروف أنَّ جنبلاط، حينذاك، عندما شعر بالهزيمة أوكلَ أمره الى خصمه ومنافسه طلال أرسلان الذي تربطه علاقة حسنة مع السوريين ومع “حزب الله”، في نوعٍ من توزيع الأدوار، حيث ظهر الأمرُ بشكلٍ “ثنائي درزي” يُحاكي “الثنائي الشيعي”. والقصة ما زالت متواليةَ الفصولِ منها ما هو مليءٌ بالتناقضات، ومنها ما هو مليءٌ بالخداع، ومنها ما هو مليءٌ بالأحقادِ الدفينة أو بالمُجاملات التمويهية … وهكذا دواليك.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى