السُلطَةُ الفلسطينِيّة تجاوَزَت هَدفَها وانتَهَت مُهِمَّتُها، لقد حانَ وَقتُ إعلان الدولة

لقد حان وقتُ إعلانِ دولةِ فلسطين التي يجبُ أن تكونَ شاملةً لجميعِ الفصائل الفلسطينية حيثُ ستكونُ بمثابةِ منتدى يُمكِنُها من خلاله إيجادَ القواسم المشتركة وحلّ الخلافات. لقد حانَ الوقتُ لكي تُصبِحَ دولةُ فلسطين أكثر من مجرّدِ حبرٍ على وَرَق.

سلام فياض: حاول إجراء إصلاحات عديدة، لكن لم تؤدِّ إلى أي نتيجة.

رجا الخالدي*

مُنذُ الأسابيع الأولى للحربِ الوحشية في قطاع غزة، أولَت واشنطن قدرًا هائلًا من الاهتمامِ للفكرةِ القائلة بأنَّ إصلاحَ السلطة الفلسطينية يُشَكّلُ جُزءًا أساسيًا من أيِّ حُكمٍ في القطاع بعد الحرب. لا تُريدُ الولايات المتحدة، وكذلك حلفاؤها العرب والأوروبيون، أن تتولّى حركة “حماس” أو إسرائيل مسؤوليةَ إدارةِ غزة بمجرّدِ انتهاءِ الحرب. المُرَشَّحُ الافتراضي لهذا المنصب هو السلطة الفلسطينية، التي أنشأتها منظمة التحرير الفلسطينية لتكون الجهة التنفيذية الحاكمة لها خلال اتفاقيات أوسلو للسلام، وهي سلسلةٌ من اتفاقياتٍ وُقِّعَت في التسعينيات الفائتة كان من المُفترَض أن تؤدّي إلى حلِّ الدولتَين للصراعِ الإسرائيلي-الفلسطيني.

لا تزالُ السلطة الفلسطينية تَحكُمُ جُزءًا من الضفة الغربية، بعد أن انسحبت إلى حدٍّ كبيرٍ من غزة في العام 2006 في أعقابِ الانقسامِ السياسي الفلسطيني. في 14 آذار (مارس)، عَيّنَ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس رئيسَ وزراءٍ تكنوقراطيًا (الخبير الاقتصادي محمد مصطفى) لتشكيلِ حكومةٍ فلسطينية جديدة بهدفِ إعادة توحيد المنطقتَين سياسيًا وإداريًا واقتصاديًا – وبهدفٍ نهائيٍّ هو إعادة إعمار قطاع غزة المُدَمَّر. لكنَّ أهمّية السلطة الفلسطينية اليوم كوسيلةٍ لمثلِ هذا التغييرِ العميق أمرٌ مشكوكٌ فيه.

الإيمانُ بتجديدِ السلطة الفلسطينية مَبنِيٌّ على وَهم. لقد أصبحت السلطة الفلسطينية مشلولة وغير فعّالة على نحوٍ متزايد منذ انهيارِ ما يشبهُ عمليةَ سلامٍ إسرائيلية-فلسطينية قبلَ عقدٍ من الزمن. لا تثقُ غالبية الفلسطينيين في السلطة على نطاق واسع، ويعتَبرُها الأعداء وبعض الأصدقاء على حدٍّ سواء فاسدة. فقد أصبح رئيسها البالغ من العمر 88 عامًا استبداديًا، كما انخفضَ التأييد له بين الفلسطينيين أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة. وفي غيابِ مجلسٍ تشريعي، حَكَمَ عباس بمرسومٍ لمدة 15 عامًا. وقبل الحرب بفترةٍ طويلة، كان عباس يُواجِهُ ضغوطًا متزايدة من الفلسطينيين والدول العربية وإدارة بايدن للتخلّي عن بعضِ سلطاته.

أولئكَ الذين يزعمونَ أنَّ السلطةَ الفلسطينية يجبُ أن تعمَلَ على إصلاحِ نفسها حتى يُمكِنُ تكليفها بالحُكمِ في غزّة يُخطِئون في فَهمِ هذه النقطة. في عهد عباس ــالذي تم انتخابه في العام 2005 لفترةِ ولايةٍ واحدة لم يتمّ تجديدها بشكلٍ شرعي ــ حاول رؤساء الوزراء المتعاقبون إجراءَ كلِّ الإصلاحاتِ المُمكِنة في حدودِ سلطتهم، بدون أن يُحقّقوا سوى القليل من النتائج. إنَّ المشكلةَ الأعمق مع السلطة الفلسطينية لا تتعلّقُ فقط بالتنفيذ أو بالأفراد. لقد تجاوزت السلطة الفلسطينية مدة صلاحيتها بكثير. أيَّامُها أصبحت معدودة منذ فترة طويلة بسبب افتقارها إلى الشرعية وضعفها المتأصّل: السلطة الفلسطينية هي عبارة عن حكومة من دون دولة ذات سيادة لتحكمها. وفي حالتها، فإنَّ مسؤوليةً كبيرة تأتي مع قليلٍ من القوّة والسلطة. لم يَكُن مُقَدَّرًا لها أن تكونَ وسيلةً مؤقتة نحو تقرير المصير كما هو مُخَطّطٌ له، بل حارسًا للوضع الراهن غير المُستدام. لم تُصبح أداةً للتحرّر بل للتَبَعِيّة.

بدلًا من التحريضِ على افتراضاتٍ غير واقعية حول مدى مُلاءَمةِ السلطة الفلسطينية كسلطةٍ حاكمة، ينبغي للشعب الفلسطيني أن يبني على لحظةِ التضامُنِ النادرة هذه لخَلقِ ما التزَمَ به، وحُرِمَ منه، لعقودٍ من الزمن. اليوم، بات بوسعه أن يَتّحِدَ من خلالِ تبنّي “دولة فلسطين” بشكلٍ أحادي وجماعي باعتبارها المظهر السياسي لهَوَيّته، وفاعليته، ومصيره المشترك. لعقودٍ، كان الفلسطينيون مُمَثَّلين من خلالِ منظّمات التحرير، ولكن اليوم، الدولة هي الكيانُ الوحيد الذي يُمكِنُ أن يكونَ بمثابةِ الوَطَنِ القومي لجميعِ الفلسطينيين البالغ عددهم 14 مليونًا في جميع أنحاء العالم.

إنَّ دولةَ فلسطين راسِخةٌ بالفعل في مُخَيَّلة الفلسطينيين وفي شرعيتهم. أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية أنَّ تأسيسها هو هدفها في العام 1988، وحصلت على عضويتها في الأمم المتحدة بصفةِ مُراقب في العام 2012. ولكن منظمة التحرير الفلسطينية استمرّت في الحُكمِ تحت عنوان السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وحركة “حماس” من خلال ما تبقّى من السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، في حين وقفت إسرائيل والولايات المتحدة في طريق إقامة دولة فلسطينية. ومن الواضح أنَّ هذا كان بمثابةِ وصفةٍ لكارثة، وهو ما ساهَمَ بلا أدنى شك في الهجمات التي شنّتها “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).

تم إنشاء السلطة الفلسطينية كهيئةٍ مؤقتة تؤدّي إلى الدولة الفلسطينية. لقد حان الوقت للاعترافِ بأنّها قد أدّت الغرضَ منها. إن التخلّصَ من المؤسّسات القديمة لصالحِ بناءِ مؤسّساتٍ جديدة في ظلِّ دولة فلسطين يُمكِنُ أن يُوَحِّدَ الفلسطينيين، ويُجدّدَ وكالتهم، ويَستَعيدَ الشرعية والمُساءلة لسياساتهم.

عجلة في نظام الاحتلال الإسرائيلي

شَكّلَت منظّمة التحرير الفلسطينية السلطة الفلسطينية في العام 1994، واعترفت بها إسرائيل والدول المانحة كحُكمٍ ذاتي مؤقت للحُكمِ إلى أن تؤدي مفاوضات الوضع الدائم في العام 2000 إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. كانت تلك الخطة جُزءًا من عمليةِ أوسلو للسلام. لكن كان من المُفتَرَضِ أن تَستَمِرَّ السلطة الفلسطينية لمدة خمس سنوات فقط. لقد تغيّرَ الكثير منذ العام 1994: انهارت قمة كامب ديفيد في العام 2000. توفي ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وحلَّ عباس محلّه. وأودت حروبٌ عدة شاركت فيها إسرائيل بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص. وكثّفت إسرائيل بناء المستوطنات في القدس الشرقية وبقية الضفة الغربية.

الفلسطينيون مُنقَسِمون بين منظمة التحرير الفلسطينية في الضفة الغربية و”حماس” في قطاع غزة منذ ما يقرب من عقدين من الزمن. في العام 2006، فازت “حماس” على “فتح” في انتخابات المجلس التشريعي، ما أدّى إلى بدءِ صراعٍ مُميتٍ بين الحركتَين. تُفضّل “فتح” المفاوضات (الفاشلة) كوسيلةٍ لإقامة الدولة، في حين تعتقد “حماس” (على نحوٍ كارثي) أنَّ الكفاحَ المُسَلَّح لا بدَّ أن يكونَ خيارًا لتحقيق التحرير. في العام 2017، عدّلت “حماس” ميثاقها لقبولِ دولةٍ فلسطينية على أساسِ حدود إسرائيل ما قبل العام 1967، لكن خوف “فتح” من خسارةِ السلطة في انتخاباتٍ ديموقراطية استمرَّ في عرقلةِ التقدّم في الجولات المتكررة من محادثات المصالحة الوطنية التي رعتها دول عربية. ولم تكن إسرائيل ولا الولايات المتحدة بريئتَين من تعميقِ هذا الانقسام.

وليسَ من المُستَغرَب أن تُصبِحَ السلطة الفلسطينية مُتَصَلّبة وغير شعبية. حتى كانون الأول (ديسمبر) الماضي، اعتقد نحو 60% من الفلسطينيين أنه يجب حلّ السلطة الفلسطينية، بحسب الباحث الفلسطيني خليل الشقاقي. تعتقد الغالبية العظمى من الفلسطينيين أن عباس وكوادره يجب أن يتنازلوا عن القيادة لجيلٍ أصغر سنًّا الذي سيحكم من خلال المؤسّسات وليس كرجالٍ أقوياء مستبدّين. لقد قاد عباس السلطة الفلسطينية منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، وقام بتأجيل الانتخابات مرات عدة آخرها في العام 2021. وهو يحكُمُ من خلالِ دائرةٍ مُغلَقة من المُقرَّبين مع القليل من الاهتمام لنصيحةِ الخبراء أو الحلفاء السياسيين أو المرؤوسين. كما أصبحت السلطة الفلسطينية منتفخة بشكلٍ متزايد. لديها 25 وزارة، وعشرات الوكالات العامة، و147 ألف موظف حكومي – ومع ذلك فهي بالكاد قادرة على توفير الخدمات الأساسية للشعب. إنَّ الفلسطينيين يستحقون أفضل من ذلك، كما يُمكنهم أن يفعلوا ما هو أفضل.

بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين يشاهدون العالم وهو يتدخّل في مصيرهم، فإنَّ الأمرَ الأكثر إثارةً للقلق هو الحكمة السائدة بين السياسيين الأميركيين بأنَّ جلبَ زعيمٍ تكنوقراطي، مُستَقِلّ عن الفصائل السياسية، سيكون بطريقة أو بأخرى العصا السحرية التي ستُصلِح السلطة الفلسطينية. إنَّ مشاكلَ الحُكم الفلسطيني تحتاجُ إلى أكثر من مجرّد إصلاحاتٍ تدريجية، أو قوانين جديدة، أو مجموعة أخرى من الوزراء. اليوم، فإنَّ الإعلام الهائج حول مَن يُمكِنُ أن يكونَ الرئيس الأفضل أو الوزير المقبل يُخطئ في فَهمِ الموضوع. الأمرُ لا يتعلّقُ بالأفراد، بل بالهياكل.

لقد قام الفلسطينيون بإصلاحِ السلطة الفلسطينية مرارًا وتكرارًا من دون أن يُقدّموا الكثير مقابل ذلك. على سبيلِ المثال، في الفترة من 2006 إلى 2012، اتبع رئيس الوزراء سلام فيّاض ما يُسَمّى بأجندةِ بناءِ مؤسّسات الدولة. وأعربَ عن أمله في أنه إذا عزّزَ مؤسّسات السلطة الفلسطينية، فإنَّ البنك الدولي وصندوق النقد الدولي سوف يشهدان على أنها “جاهزة لإقامة الدولة”، مما يُقنِعُ إسرائيل بإنهاءِ احتلالها والعالم بالاعترافِ بالحقوق الفلسطينية. وتضمّنَ برنامج فيّاض إصلاحاتٍ مالية عامة وسياساتٍ صديقة للسوق، لكنه لم يسفر عن تغييراتٍ ذات معنى من جانب إسرائيل. منذ ذلك الحين، نأى رؤساء الوزراء الآخرون بأنفسهم عن هذا النهج، ولكن لم يكن لديهم سوى القليل من الأدوات اللازمة للاستجابة للشعب الفلسطيني الذي يشعر بالاستياء على نحوٍ متزايد من سوءِ الإدارة، والخدمات المتواضعة، والخدمة المدنية ذات المحسوبية العالية.

كان بعضُ إصلاحاتِ السلطة الفلسطينية ناجحًا. لقد قام عرفات بتغيير الدستور للفَصلِ بين بعض السلطات الرئاسية وسلطات رئاسة الوزراء، مُتَوَجِّهًا نحو شيءٍ أقرب إلى النظام الفرنسي. كان هذا مُهمًّا في خلقِ بعضِ الضوابط والتوازنات، لكنَّ عباس تجاهلَ العديد من القيود المفروضة على سلطته. تُوَفّرُ السلطة الفلسطينية الخدمات والمرافق العامة الأساسية وتُحاولُ الاستجابة للمطالب الاجتماعية، لكنها تفتقرُ إلى السلطة أو المصداقية لإحداثِ التغيير. لم يجتمع الفرع التشريعي للسلطة الفلسطينية منذ انقسام السلطات الحاكمة في الضفة الغربية وغزة في العام 2007. ومنذ ذلك الحين، تمَّ سنُّ قوانين السلطة الفلسطينية بموجبِ توصيةٍ وزارية ومرسوم رئاسي، ما أدّى إلى خَلقِ مستنقع قانوني نَتِن.

لقد وَضَعَت قوّةٌ أمنية مُوَحَّدة تحت قيادة عباس حَدًّا لحالةِ الانفلات الأمني التي رافقت الانتفاضة الثانية في المناطق التي تُسيطِرُ عليها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولا تزال هذه القوة تُشَكّلُ مصدر قوّة لقدرة عباس على الحُكمِ في نطاق السلطة القضائية الأساسية للسلطة الفلسطينية. ويتناقَضُ ضعفُ الوظائف المدنية للسلطة الفلسطينية مع قواتها الأمنية القوية التي تضمن القانون والنظام بين الفلسطينيين ولكنها تتنحّى جانبًا في مواجهة العمليات العسكرية الإسرائيلية وهجمات المستوطنين. وهذا يُضاعِفُ من صورتها الشعبية على أنها ليست أكثر من مجرد عجلة في نظام الاحتلال الإسرائيلي.

تُعاني السلطة الفلسطينية اقتصاديًا وماليًا أيضًا. يعتمد الاقتصاد الفلسطيني بشكلٍ كبير على الوظائف في إسرائيل وعلى الإيرادات التي تُسيطرُ عليها تل أبيب، والتي تُمثِّلُ مُجتمعةً أكثر من ثلث الدخل القومي الفلسطيني والتي انهارت الآن. منذ تشرين الأول (أكتوبر)، منعت إسرائيل دخول معظم الفلسطينيين الذين عملوا سابقًا فيها، والبالغ عددهم 180 ألف فلسطيني، في حين لن يُحوِّلَ وزير المالية الإسرائيلي المتطرّف، بتسلئيل سموتريتش، أموالَ الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، لمُعاقبتها على دفع الرواتب ومعاشات التقاعد لموظّفيها في غزة. ولم يعد من الممكن الاعتماد على السلطة الفلسطينية لدفع رواتب القطاع العام كاملة في غزة أو الضفة الغربية، وهو آخر بقايا غَرَض السلطة الفلسطينية وسلطتها.

بداية جديدة

تُعاني السلطة الفلسطينية من اختلالٍ وظيفي كبير بحيثُ لا يُمكِنُ إحياؤها أو إصلاحها أو إعادةُ بنائها. لم يعد بوسع منظمة التحرير الفلسطينية أن تَدَّعي أنها تُمثّلُ جميع الفلسطينيين البالغ عددهم 14 مليون نسمة. كما لا تستطيع حركة “حماس” وفصائل المقاومة أن تتولّى الحُكمَ بعد أن يهدأ غبار الحرب في غزة، لأنها تبدو مُحَطَّمة تنظيميًّا. إنَّ الشعبَ الفلسطيني يحتاجُ بشدّة ويستحق حكومةً فعّالة ونزيهة.

إنَّ الكيانَ السياسي الفلسطيني الشرعي الوحيد الذي لم يُلَوِّثه الفشل بَعد هو دولة فلسطين. فهي تنتظر لتأخذ مكانها بين دول العالم. إنَّ هذه اللحظة الراهنة مُناسبة للقادة السياسيين الفلسطينيين، بمَن فيهم قادة “فتح” ومنظمة التحرير الفلسطينية وكذلك فصائل المقاومة، للتخلّي عن السلطة الفلسطينية. ينبغي عليهم أن يؤيّدوا تشكيلَ حكومةٍ مؤقتة جديدة لدولةِ فلسطين لتُمثّل جميع الفلسطينيين، ولتَحكُم الفلسطينيين تحت الاحتلال اليوم وداخل دولة قابلة للحياة حرّة ومستقلة غدًا.

لا ينبغي لهذه العملية أن تكونَ ثورية، بل تحويلية، على غرارِ الطريقة التي نقلت بها منظمة التحرير الفلسطينية صلاحياتها إلى السلطة الفلسطينية بعد أوسلو. يحتاج الفلسطينيون إلى انتقالٍ سَلِسٍ للسلطة. هذه المرّة، ستجمعُ عمليّةُ تَشكيلِ الدولة الفصائلَ السياسية الفلسطينية، وكذلك السلطة الفلسطينية ومؤسّساتها، ضمن الإطارِ غير الحزبي الأوسع للدولة. يجب أن تبدأ العملية من داخل منظمة التحرير الفلسطينية، المُوَقِّعة على اتفاقيات أوسلو، والتي تتمتّعُ بوضعٍ تمثيلي قانوني وديبلوماسي لتمكين الدولة من أداء وظائفها. ينبغي على عباس، وهو الرئيس الفخري للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أن يُعلِنَ بدايةَ عمليةٍ مُحَدَّدة زمنيًا لإنشاءِ وبناءِ الدولة، من خلالِ سلسلةٍ من الإجراءات التي من شأنها إنشاء مؤسّساتها، بدءًا بحكومةٍ مؤقتة لدولة فلسطين تتمتّعُ بصلاحياتِ الحُكم في الأراضي المحتلة، وإعادة إعمار غزة المنكوبة بدعمٍ دولي، والتحضير للانتخابات الوطنية.

إنَّ الترتيبات التكنوقراطية للحُكمِ الرشيد في الضفة الغربية وقطاع غزة لن تنجحَ إلّا إذا أَغلَقَ الحوارُ السياسي الوطني فَصلَ الانقسامِ وفَتَحَ فصلًا جديدًا يُرَكِّزُ على بناءِ الدولة. ومن خلالِ مجلسٍ رئاسي تُشَكّلهُ فصائل منظمة التحرير الفلسطينية و”حماس”، إلى جانب مجلسٍ استشاريٍّ عام (مثل المجلس الوطني النائم لمنظمة التحرير الفلسطينية)، يُمكِنُ مناقشةُ الخطوط العريضة للمُستقبلِ الديموقراطي والاتفاق عليها، مع تَركِ السياسة حول مَن هو الأنسب لقيادة الشعب الفلسطيني للحَسمِ عبر صناديق الاقتراع. خلال هذه المرحلة، يجب أن يجتمعَ كبارُ الخبراء القانونيين الفلسطينيين من جميع أنحاء العالم لصياغةِ دستورٍ للدولة.

يجب أن يبقى الأمن والعلاقات الخارجية ضمن صلاحيات الرئيس، في حين يجب أن تَقَعَ الشؤون المالية والإدارة وإعادة الإعمار ضمن صلاحيات رئيس الوزراء، وهو التوازنُ الذي كان من المُفتَرَضِ أن يَتَحقّقَ قبل 20 عامًا ولكن عباس تجاهله. أما كيفية تكريس هذه الأدوار في الدستور، فيُمكِنُ أن يَنظُرَ فيها المجلس الرئاسي وهيئة استشارية مثل المجلس الوطني. ولكن منذ اليوم الأول، تُصبِحُ لدى رئيس الوزراء الجديد فرصةٌ لإظهارِ انفصاله التام عن تراثِ أسلافه. ويمكنه تشكيل حكومة أصغر حجمًا بنصف عدد الوزارات، والمضي قُدُمًا في إصلاحاتِ المالية العامة والخدمة المدنية والاجتماعية والاقتصادية التي تمَّ حظرُها لسنوات.

في البداية، يجب أن يكون المواطنون المُقيمون في الدولة هم هؤلاء الخمسة ملايين فلسطيني الذين يحملون الآن بطاقات هوية وجوازات سفر تابعة للسلطة الفلسطينية، لكن يجب على الدولة في نهاية المطاف أن تمنحَ الجنسية بدونِ حقوقِ الإقامة للاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، كتأكيدٍ على الهوية. ومن المُمكن أن يبدأَ اعتبارُ الفلسطينيين مواطنين أفرادًا في دولةٍ تربطهم بوطنهم، وليس كمجموعة من مجتمعاتِ وفصائل الشتات.

قد تبدو الحكومة التي يتمُّ تشكيلها كجُزءٍ من دولة فلسطين الجديدة لا تُقدّمُ سوى القليلِ من الفوائد المادية مُقارَنةً بالتشكيلِ المُقَسِّم والمُنقسِم  للسياسة الفلسطينية اليوم. من غير المرجح أن تعترفَ بها الولايات المتحدة أو إسرائيل. وستبقى تحت الاحتلال الإسرائيلي ولن تمنحها أي فوائد ديبلوماسية على النظام الحالي. لكن الحكومة الجديدة من شأنها أن تقدم للفلسطينيين الفرصة لبناء هياكل جديدة أفضل واستعادة الثقة في قيادتهم واحترام العالم. وستكون الدولة شاملة لجميع الفصائل الفلسطينية وستكون بمثابة منتدى يمكنهم من خلاله إيجاد القواسم المشتركة وحلّ الخلافات. لقد حان الوقت لكي تصبح دولة فلسطين أكثر من مجرّدِ حبرٍ على ورق. إن تشكيلَ حكومةٍ باسمها هو الخطوة التالية في مسيرة التحرير الوطني الطويلة.

  • رجا الخالدي هو المدير العام لمعهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2019. وقد عمل سابقًا في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى