هَيمَنَةُ “حزب الله” في لبنان لم تَعُد مُؤكَّدة

مايكل يونغ*

16 شباط (فبراير) هو اليوم الذي أصدر فيه “حزب الله”، في العام 1985، ما يُسَمّى بالخطاب المفتوح، والذي شرح فيه هويته وعَرَضَ برنامجه السياسي. في ذلك الوقت، شجب “حزب الله” النظام السياسي اللبناني وانتقده، مُقترحًا أن يختار المجتمع بدلًا منه دولة إسلامية. ومن المفارقات أن الحزبَ الشيعي لا يزال اليوم يُصارِعُ النظامَ الطائفي في لبنان، والذي على الرُغمِ من هيمنته العسكرية، فإن هذا النظام يُشكّلُ أكبرَ تهديدٍ له في المستقبل.

منذ الانسحاب العسكري السوري من لبنان في العام 2005، أصبح “حزب الله” يلعب دورًا مركزيًّا في الحياة السياسية اللبنانية. نظرًا إلى أسلحته وقدرته على حشد أعدادٍ كبيرة من الأتباع وقدرته على حشد حلفاء سوريا، فقد فرض نفسه كجهةٍ فاعلة لها الكلمة الأخيرة في معظم الأمور التي تؤثر في البلاد. لكن الشيءَ الوحيد الذي لم يتمكّن “حزب الله” من فعله هو القضاء على النظام الطائفي، بقواعده غير المكتوبة، ورهابه وقيوده.

قبل ثلاثة عقود، تردّدَ “حزب الله” في الاندماج في النظام الطائفي باعتباره مُخالفًا للدولة الإسلامية. وبالفعل، في العام 1992، أثار قرار “حزب الله” المشاركة في الانتخابات النيابية اللبنانية نقاشًا حادًا داخل الحزب. وقد فاز في نهايته الامين العام الحالي السيد حسن نصرالله الذي دعا الى المشاركة.

ومع ذلك، فإن هذا لم يقضِ على شذوذ الحزب داخل النظام. في حين أن “حزب الله” طائفي، فهو أيضًا منظّمة مُسلّحة سلطوية موالية لإيران في المقام الأول. لفترةٍ طويلة، مَثَّلَ تباينًا مع الأحزاب الطائفية اللبنانية الأخرى، التي لديها قناعات إيديولوجية قليلة، وهياكل تنظيمية ضعيفة، والتي كانت تَعتَبِرُ المساومة وتقديم التنازلات على موارد الدولة أمرًا شائعًا.

تميل معتقدات “حزب الله” الإيديولوجية وقوّته العسكرية إلى دفعه في اتجاهٍ مُعاكس لمتابعة أهدافه السياسية بدون الشعور بضرورة تقديم تنازلات. لكن مع تولّي “حزب الله” دورًا أقوى، بدأ النظام في تغيير الحزب أكثر من تغيير الحزب للنظام. لم يعد بإمكان “حزب الله” أن يتجاهل الضرورات الطائفية والقيود التي فرضتها على سلوكه.

المفارقة أنه مع تَغَيُّرِ “حزب الله”، أصبحت الطوائف الدينية الأخرى في لبنان تتوقّع منه أن يتصرَّفَ مثل جميع الأحزاب الطائفية، وتعاملت معه على هذا الأساس. وقد أدى ذلك إلى تقليصِ حجمه في أذهان الآخرين، على الرغم من براعته العسكرية. عندما حاول الحزب فرض تفضيلاته على الآخرين، من دون التنازل عن أيِّ شيء، كانت النتيجة ردَّ فعلٍ طائفيًا كان يمكن أن يكون خطيرًا.

في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، سعى “حزب الله” وحليفه الشيعي الرئيس، “حركة أمل”، إلى وقف التحقيق في انفجار مرفَإِ بيروت من خلال تنظيم احتجاجٍ بالقرب من عين الرمانة، وهو حيٌّ تقطنه أغلبية مسيحية. وكان معظم ضحايا الانفجار من المسيحيين، وأرادت الأطراف ترهيب السكان للتخلّي عن دعم التحقيق. وبدلًا من ذلك، أطلق شبانٌ من المنطقة النار على المتظاهرين الذين دخلوا حَيَّهُم. وأعقب ذلك تدخّل الجيش الذي أدّى إلى مقتل عددٍ من عناصر الثنائي الشيعي المُسَلَّحين.

وبموجب مبادئ النظام الطائفي، فإن دخول الشبان الشيعة إلى منطقة مسيحية مُرَدِّدين شعارات طائفية تجاوزوا خطًا أحمر. وقد برّرَ ذلك ردّ الفعل المسلح لشبان عين الرمانة، بينما أكد الجيش أفعاله أيضًا بالقول إنه تجنّبَ حربًا أهلية جديدة. لم يكن أمام “حزب الله” خيار سوى امتصاص الضربة، لأنه أراد هو الآخر تجنّب الصراع.

في الوقت الذي يواجه لبنان انهيارًا اقتصاديًا منذ العام 2019، كان على “حزب الله” أن يتصارع مع حقيقة أنه ظلَّ الداعم الرئيس للقيادة السياسية الطائفية، والتي يُلقي الكثير من الناس باللوم عليها بالنسبة للوضع المتردّي في البلاد. وبغض النظر عن سلاحه، فإن “حزب الله” يُدانُ الآن بشكلٍ روتيني من قبل اللبنانيين من جميع الأطياف السياسية، ما يجبره على اللجوء إلى سياسة التسوية عند الضرورة التكتيكية.

إحدى التكاليف الأكثر وضوحًا التي يجب على الحزب النظر فيها هو ما إذا كان بإمكانه الدخول في صراعٍ مع إسرائيل نيابة عن إيران. إن دورَ “حزب الله” كوكيلٍ للجمهورية الإسلامية متأصِّلٌ في حمضه النووي، لكن في السياق الطائفي اللبناني، فإن لُعبَ هذا الدور اليوم محفوفٌ بالمخاطر. الدمار الذي ستُلحقه إسرائيل بلبنان من شأنه أن يُثيرَ ردودَ فعلٍ غاضبة من معظم الطوائف الدينية، وحتى من بعض الشيعة. يمكن للحرب أن تَهُزَّ قبضة “حزب الله” على البلاد، حيث سيثور الكثير من اللبنانيين ضد دفع ثمن أجندة إيران الإقليمية.

لا يواجه “حزب الله” تهديدًا وجوديًا، لكن مع ازدياد تقلّبِ الأوضاع الاجتماعية في لبنان، ومع محاولة الحزب حماية هامش المناورة لديه، فإن البيئة التي يعمل فيها تتحوّل إلى وضعٍ غير مواتٍ له. من خلال محاولته امتلاك البلاد بعد العام 2005، امتلك “حزب الله” فعليًا جميع مشاكلها، وأصبحت طريقته المعتادة في التعامل مع التحديات، من خلال الإكراه والقوة، غير قابلة للاستمرار.

اقترح البعض في إسرائيل والولايات المتحدة أن “حزب الله” ولبنان شيءٌ واحد، بحيث يؤدّي تقويض أحدهما إلى تقويض الآخر. هذه المعادلة، التي عبّر عنها المتطرفون الإسرائيليون ومراكز الفكر الإيديولوجي اليمينية المتطرفة في واشنطن، غير منطقية. مَن يُراقبُ ما يجري يُدرِكُ أنَّ “حزب الله”، حتى لو بقيت قوته على حالها، قد دخل في فترةٍ من عدم اليقين مع بروز تناقضاته.

بالنسبة إلى حزبٍ كان يُدرِكُ دائمًا الحاجة إلى ترسيخِ نضاله المُناهض لإسرائيل في مجتمعٍ مُتعاطف، يجب أن يكون هذا مُقلقًا. “حزب الله” يعمل في بيئة مُعادية بشكلٍ متزايد. ستُحدّد كيفية معالجة هذا الأمر قابليته للبقاء في المدى الطويل.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى