عن إِذْنِك “خواجة” بيكاسو (1 من 3)

“وجه امرأَة”، أُولى خطواته صوب التكعيبية

هنري زغيب*

في هذا المقال بأَجزائه الثلاثة أَنطلِقُ من مقولةٍ بين ثلاثٍ كشفتْها “جيسيكا جاك بي”، الباحثة الإسبانية التي يعتبرها مؤَرخو الفن أَهمَّ مَن بَحَثَ عن بيكاسو، في عدد من كتبها عنه. وفي أَحدها: “بيكاسو في غوزول – طليعة الحداثة” (مدريد 2007) وردَت تلك المقولة على لسانه: “مع اكتشاف التصوير الفوتوغرافي لم يعُد للفن أَن يقلِّدَ الواقع ولا عاد يستطيع تقليدَه. بل العكسُ هو المطلوب: على الواقع أَن يقلِّد الفن”. المقولتان الباقيتان سيأْتي ذكرُهما لاحقًا في هذا المقال.

لذلك، انطلاقًا من رأْيه أَنّ “على الواقع تقليدَ الفن” (يعني أَن تُصبح الطبيعة بمناظرها ووجوهها مُشَوَّهةً كي تقلِّد لوحات بيكاسو التكعيبية وما بعدها، يعني أَن نُلغي جميع الانطباعيين والكلاسيكيين المبدعين) كان عنوانُ هذا المقال: “عن إِذْنك خواجة بيكاسو”.

“جرترود شتاين” بريشة بيكاسو (1906)

بدايات التحوُّل

عن جيسيكا في أَبحاثها المعمَّقَة أَنّ بيكاسو (1881-1973) في مطالع مرحلته التكعيبية – بعد مطالعه الكلاسيكية الناجحة – قال يومًا لراعيته فترتئذٍ جيرترود شتاين سنة 1905: “بعد دييغو فيلاسكيز(1599-1660) لم يعد أَمامنا ما يستحقُّ أَن نرسمه”. فأَجابته جيرترود: “لذلك يجب أَن تخترع طرقًا جديدة تَبهرُ بها الناس”. وهكذا كان، وبدأَ يخرج إِلى “صرعات” بيكاسُوية ظلّت تتزايد حتى وصلَت إِلى “أُسلوبه الخاص” الذي شوَّه فيه مقاييس الجسد والوجه في شكل مرعب وأَحيانًا مُقَزِّز، فمحا مقاييس التناسق الهارموني والجمال الإِبداعي، وبات عمله “موضة” أَو “موجة”، وطبيعة الموضة أَو الموجة أَن تَظهر باهرة في مطلعها ومسارها لكنها، ولو بعد فترة طويلة، لا تلبث أَن تخبو عند ظهور موضة جديدة أَو موجة تالية.

جرترود في صورة فوتوغرافية (1913)

هكذا يَطلب الأَغنياء

في تصريح لــمدير غالري ماساليا (مرسيليا – فرنسا) جاء: “بيكاسو هو الخيبة الكبرى في تاريخ الفن” واستشهد لمقولته هذه بحديث لبيكاسو يوم عيد ميلاده سنة 1971 (وكان في التسعين) نقلًا عن مجلة “لايف” الأَميركية عامئذٍ، جاء فيه: “كثيرون يُصبحون فنانين لأَسباب لا علاقة لها بالفن… الأَغنياء عادةً يطلبون من الفنان جديدًا، فريدًا، فضائحيًا. من هنا أَنني، انطلاقًا من التكعيبية، أَرضيتُ أُولئك الأَغنياء بأَعمال سخيفة، وكلَّما فهموا اللوحة أَقلّ، كنتُ أَحصد مالًا أَكثر وشهرة أَوسع. وها أَنا اليوم غنيٌّ ومشهورٌ، لكنني حين أَكون وحدي أَمام لوحاتي لا أَجرؤُ على التفكير أَنني فنان متميز بالمعنى الأَعلى للكلمة. هذا مريرٌ، لكنه حقيقيّ”.

جيرترود شتاين

هي راعية بيكاسو عند مجيئه من إسبانيا، ومشجعتُه الأُولى على “كسْر” القوالب الكلاسيكية التي جاء بها حديثًا إِلى باريس معتبرةً إِياها خارج الموضة الباريسية التي كانمت فترتئذٍ بدأَت تنزلق إِلى موجات جديدة بيتنها ولادة التكعيبية. وجيرترود شاعرة وكاتبة أَميركية ولدت في بنسيلفانيا سنة 1874 وتوفيت في باريس سنة 1946. أَمضت معظم حياتها في فرنسا، وكانت ذات تـأْثير كبير على الحركة التكعيبية، خصوصًا على ثلاثة من أَعلامها: ماتيس، سيزان، وبيكاسو.

جاهدَت في محيطها الفني بالدفاع عن الفن الحديث وترويجه، وخصوصًا موجة التكعيبية التي رأَت فيها مَنفذًا أَولَ لكسْر الكلاسيكية. كان بيكاسو أَكثر المتأثرين بها وأَسرعهم، فرسمها سنة 1906 قبل أَن يُطلق موجة التكعيبية مع الرسام الفرنسي جورج بْراكْ  (1882-1963)، وفيما كان لا يزال مأْخوذًا بالتفتُّح الفني الذي كان سائدًا في موجة مونبارناس عند مطلع القرن العشرين.

جرترود تحت لوحتها بريشة بيكاسو

لوحة جرترود شتاين

تلك اللوحة الزيتية كانت مكافأَة منه إِليها بعد الذي لمسه من تشجيعها ورعايتها، وخصوصًا ما كان لها من تأْثير عليه، لا بكونها هاوية جمع اللوحات من فناني عصرها وحسب، بل لأَنها اهتمَّت به تحديدًا، وساهمَت في تسويق أَعماله تجاريًّا لدى هواة جمع اللوحات، وكان واصلًا حديثًا إِلى باريس ولم يكن اسمه تكوَّن بعد في حلقة الفنانين. بذا كانت جرترود وراء اعتماده الخروجَ من الكلاسيكية (وكان وقعها بَهَت في أَوساط باريس) فنحا إِلى التكعيبية (التي خلق فيها “موضة” جديدة). ولوحته عن جرترود شتاين (100×81 سنتم) موجودة اليوم في متحف المتروبوليتان (نيويورك)، وتُعتَبَر من أَبرز أَعمال بيكاسو في المرحلة الزهرية (1904-1906).

عن الباحثة جيسيكا أَن بيكاسو، منذ أَوائل لقاءاته بجرترود سنة 1905 أَخذ يرسمها تباعًا في جلسات قالت عنها جرترود لاحقًا إِنها بلغَت نحو 80 جلسة متقطِّعة المواعيد. وفي الجلسة الأَخيرة، واللوحة قاربت أَن تكتمل، قال لها بيكاسو فجأَةً: “لم أَعُد أَستطيع رؤْيتكِ حين أَنظر إِليكِ”. وهكذا توقَّف عن إِكمال اللوحة بضعة أَشهر سافرت خلالها جرترود إِلى إِسبانيا، لكن بيكاسو في غيابها عاد فأَكمل رسم الوجه، حتى إذا عادت إِلى باريس ورأَت اللوحة ناجزة، قالت له: “هذا إِبداع، أن تكمل تفاصيل وجهي وأنا غائبة عن الجلوس أَمامكَ”.

الخروج من الكلاسيكية

كانت تلك العبارة من جرترود إِشارة واضحة إِلى تَمَكُّنه من الرسم الكلاسيكي ببراعة مدهشة. لكنها، مع ذلك، ظلَّت تشدُّ به إِلى الخروج من الكلاسيكية نحو “أُسلوبه الخاص”، فانحاز إِلى التكعيبية التي راح يتوغَّل فيها حتى خرج لاحقًا من كل شكل سويّ، مطيحًا كلَّ جمال وكل تناسق في مقاييس الوجوه والأَجساد والأَشكال.

غير أَن التغيير الجذري في أُسلوبه بدأَ صيف ذاك العام (1906)، إِبَّان 80 يومًا قضاها بيكاسو مع عشيقته الأُولى الرسامة الفرنسية فرناندا أُوليفييه في بلدة جبلية معزولة نائية من مقاطعة كاتالونيا الإِسبانية تدعى غوزول.

ماذا حدث في غوزول؟

ولماذا كان هذا التحوُّل؟

هذا ما أَكشفه في الجزء الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى