الترجمة الإبداعية أو “اختراق حُجب الكلمات”

في سياق الاحتفالات بمئوية كتاب “النبي” لجبران خليل جبران، دعا نادي ليونز فِكتُر-طرابلس إلى لقاءٍ حول الكتاب الذي ترجمه أخيرًا الشاعر والأديب اللبناني هنري زغيب، ألقى فيه الناقد والأكاديمي الدكتور جان جبور الكلمة النقدية التالية:

جان جبّور*

نجتمعُ اليوم حول العمل الإبداعي الذي أنجزه صديقنا الشاعر هنري زغيب بصياغة ترجمة جديدة لــ”نبي” جبران… المهمة الملقاة على عاتقي ليست سهلة، فمن جهة: المقام هنا لا يتيح الغوص في نظريات الترجمة ومناهجها وتقنياتها كما لو كنا في محاضرة أكاديمية. ومن جهة أخرى عليّ عدم الانزلاق للانحياز التام الى جانب المُتَرجِم بحُكمِ ما يربطني به من صداقة واحترام.

حين تناهى اليّ  أنَّ الشاعر هنري زغيب يُعِدُّ لترجمةٍ جديدة لكتاب “النبي” لجبران راودتني جُملةً شهيرة للكاتب الفرنسي لابرويار: “Tout est dit et l’on vient trop tard” أي كل شيء قد قيل ونحن نأتي في وقتٍ متأخّر. فما الذي بإمكان مترجم جديد أن يقدمه بعد أن انبرى لهذه المهمة كبار من أمثال انطونيوس بشير وميخائيل نعيمة ويوسف الخال وسركون بولص وثروت عكاشة … كي لا أسمّي سوى الترجمات المعروفة والواسعة الانتشار.

الجرأة لا التهوُّر

نقطة الانطلاق إذن في هذه المغامرة هي الجرأة التي لم يتوانَ بعض النقاد عن وصفها بالتهوّر. في الواقع، لقد أثارت هذه الترجمة جدلًا واسعًا، إذ ليس من السهل زعزعة ما رسخ في ذهن الناس من ترجماتٍ كلاسيكية متداولة، أضفى على بعض نصوصها صوت فيروز سحرًا لا يُضاهى. وقد أدرك زغيب بحدسه ما سوف يتعرّض له من سهام، فاستَبَقَ الأمر بمقدّمة حول “فن الترجمة” ضمّنها تجربتَه الخاصة وسعيَه لترجمةِ “إنكليزيةِ جبران الأمس بعربية اليوم ورشاقتها وإيقاعها العصري”. كما أوضحَ في أكثر من مقابلة عن أنَّ التساؤل حول إمكانية وضع ترجمة جديدة بعد ترجمات كثيرة سابقة، بينها ما هو ممتاز، لم يعد يؤرقه، ذاك “أنَّ النصَّ المُترجَم، كما يقول، ليس ابنَ حقيقةٍ علمية ثابتة لا حيادَ عن صوابيَّتها، بل هو وليدُ احتمالات في النص الأَصلي يتَّسع لها النص المنقول إِلى اللغة الجديدة، خصوصًا حين هذه تكون، كالعربية، لغةً غنية بالمفردات والمرادفات والتورية والمجازات والاستعارات”.

هل كل نص صالح لإعادة ترجمته؟

بالطبع لا. إلّا أنَّ النصَّ الجبراني ببساطته وعمقه في آن، وبما يكتنز من تلميح وإيحاء ورموز يفتح الباب واسعًا أمام الاجتهاد، ومن هنا كثرة المحاولات التي تفترق أو تتقاطع في أكثر من مكان. وهذا ما أشار اليه ببلاغة ميخائيل نعيمة في مقدمة ترجمته: “”ترجمة كتاب من طراز النبي  ليست من السهولة في شيء، بل إنها من المَشقّة بمكان. فالكتاب يزخر بالتلوين الشعري والإيقاع الموسيقي والإيماءات الرمزية والاستعارات المبتكرة، إلى جانب ما فيه من تصوير الأفكار والأحاسيس المُبهَمة تصويرًا أقل ما يقال فيه إنه ليس مألوفًا. ولا أقول إنَّ جبران كان يتعمّد الإبهام، بل كان يعتقد أنَّ من الأفكار والأحاسيس ما يتعذّر نقله إلّا بالتلميح وإلّا بالرموز…  ومن ثمَّ فجبران كان شديد الحرص على أن يزاوج الكلمات بطريقة تطرب لها الأذن. فاهتمامه بالمعنى لم يكن أشد من اهتمامه باللون واللحن… “.

إذن النص الجبراني “حمّال احتمالات” كما يقول زغيب في مقدمته، والترجمة عمل ابداعي.. كما إنَّ “اللغة كائن حي يتطوّر مع العصور  والأجيال المتعاقبة على استعمالها”.

دخول زغيب الى “معنى المعنى”

هل أحدثت ترجمة زغيب فارقًا ؟ هل أضافت جديدًا ؟ هل أمكن المترجم من الدخول إلى “معنى المعنى” كما يقول؟ هل تمكّنَ من إحداث خرقٍ فعلي؟ هل أتت الصياغة  العربية المُتَجدّدة لتصنع تحديثًا للأصل الإنكليزي، أم أنَّ الشاعر اكتفى بوضع بصمته الأسلوبية، بما في ذلك بعض التراكيب الغريبة، ليُحدِث صدمة تستثير النقاش، ويكون بالتالي كمن كسر مزراب العين؟

الجواب عن كل هذه التساؤلات ليس بالسهل. إلّا أنَّ أول ما يلفتنا حين تقع أنظارنا على نصِّ زغيب هي تلك اللغة الأنيقة، المُنَمَّقة، المُنَصَّعة.  فهنري زغيب يتعامل مع النص الجبراني كمُتضلّع باللغتين الإنكليزية والعربية، لكن الأهم أنه يتعامل مع الترجمة كشاعر مُرهَف الأحاسيس. وهو استخدم إحساسه الشعري ليرتقي الى شاعرية وروحانية جبران.

الكتابة العمودية

بدأ زغيب “ثورته” بالتلاعب بالبنية التيبوغرافية للنص الجبراني فجعلها عمودية وقد أتت كل جملة على سطر خاص، حتى أنَّ بعضَ الأسطر في الترجمة يتكوّن من كلمة أو كلمتين خلافًا للنص الإنكليزي. هكذا بدا النص أشبه بالشعر الحر أو الشعر المنثور. في الواقع، أنا كقارىء أُعجِبتُ بجمالية التوزيع، لكني كمترجم تساءلتُ إن كان يحقُّ لأيِّ مُترجِمٍ تعديل البنية الجبرانية وطابعها النثري، سيما وأنَّ الشعرَ الحر كان معروفًا في الولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشر مع أعمال الشاعر والت ويتمان (Walt Whitman) وقد تأثر به كل من جبران وأمين الريحاني، وهذا الأخير أصدر عام 1910 ديوانه “هتاف الأودية” الذي يعدّه النقاد أول ديوان في الشعر المنثور، ويبدو فيه تأثير ويتمان واضحًا. ما أود قوله: لو كان جبران يريد أن يصدر كتابه “النبي” بصيغة الشعر المنثور لكان فعل، فهل يحق لنا بحجة التحديث ترتيب نصّه وفق صيغة لم يخترها هو ككاتب؟

تحديث بُنْية النص

من التحديث في الشكل الى التحديث في بنية النص وتنصيعه. وهنا يكمن الجهد الفعلي الذي بذله هنري زغيب. لقد تعامل شاعرنا مع النص بحبٍ على الطريقة الجبرانية. في فصل “الحب” يقول جبران : “الحب يدرسُكم حتى يعرّيكم. يغربلكم حتى يحرّرَكم من قشوركم. يطحنُكم حتى النقاء. يعجنُكم حتى تلينوا…”. هكذا اشتغل المترجم بالنص، فراح يشحّلُه، ويعصرُه، ويلمّعُه، معتمدًا على مهاراته اللغوية وحسّه الشاعري. لقد عمل زغيب بشكلٍ أساس على ترشيق الجملة، فنراه يخفّفُها من كلِّ ما يثقلُها من طريق الاقتضاب والحذف: “سألناكَ تخاطبُنا فتعطينا من حقيقتكَ ما نعطيه أولادنا وهم أولادَهم فلا يفنى” (30). .. “قلْ لنا كلّ ما انكشف لك عمّا بين الولادة والموت” ( 31). وهو لهذا الغرض غالبًا ما يبتر الاسم الموصول: “المدى الفاصلك عن سفينتك” (30) ، “هي الكانت” (30، 57)، “الجوفّتَها” (57)، “يا الأم التي لا تغفو” (26)، “يا الوحدَك” (26)، “إن جميع هذه الأعلاه” (82)، “يا عاشق القمم اللاتُبلغ” ( 136).

المحسّنات الأسلوبية واللغوية

وهو لا يتوانى عن التلاعب بالجملة من طريق التأخير والتقديم: “حين في السوق أنتم” ( 66)، “تعليم القفزَ السلحفاةِ” (103)، “النبرة في صوتكم تخاطبُ أذن سماعه” ( 98)، “تمسي ذكرياتٍ سنواتُك معنا” (29).

كما يلجأ إلى الاشتقاق والمفردات والتراكيب غير المألوفة: “موج البحر ينائيك عنا” (29)، “في اطّلابك الكائن الأسمى” (30)، “تعاشقا.. تساكبا الكأس” (37)، “وما سوى حين تعملون بحبٍ ترتبطون بذواتكم وبالسوى وبالإله” (53)، “أغنيةً تعذوذب بحبه” ( 55)، “جمٌّ فيكم أصبح إنسانًا” ( 71)، “يزور المدينة مرة إحدى كل عام” (109)، “نحن تيّاهون” ( 127)، “أكثر الأغرودات حرية” (119)، “الشغف المنسرح وحده” ( 85)،  “حديقة مزهوهرة دومًا” (116)، “كي أؤمن بكم أكثر وأفهمَكم أكثبَ” (137).

ترجمة باللغة بنت العصر

سعى زغيب إلى إعطاء اللغة مداها الأوسع، لكني لستُ مُتيقّنًا من أن القارىء يستسيغ دائمًا هذا التجرّؤ، فهل تمكّن شاعرنا من سكب النص الجبراني في “لغة رشيقة هي بنت عصر اليوم لا عصر جبران”، كما يقول، أم أنه قولب النص الجبراني ونمّقه بما يجعله أقرب الى نفَس زغيب وأسلوبه من لغة جبران؟

هذه الترجمة وضّحت الكثير من المفاهيم، كاعتماد “الحب” صاحب الدروب الوعرة الشائكة، الذي “يطحنكم ويعجنكم، ثم يصطفيكم الى ناره المقدسة”، بدلًا من “المحبة” ذات المنحى الطوباوي؛  واعتماد كلمة “الإله” لشموليتها إيمانًا ومُعتقدات مختلفة، بدلًا من كلمة “الله” التي لا تنطبق إلّا على المؤمنين بالأديان الإبراهيمية، علمًا بأني ميّالٌ هنا الى الاعتقاد ومن خلال المقارنة مع نصوص جبرانية أخرى بأن كلمة الله تصحّ في أماكن كثيرة من النص، وبكل حال، أنا حين أحب -على الطريقة الجبرانية- أفضل أن أكون في قلب الله وليس في قلب الإله!

لا تقدّم للعلْم من دون اجتهاد، وهنري زغيب اجتهد، لذا له أجران حيث أصاب كما ورد في الحديث الشريف، وأجر واحد حيث لم يُصب. هنري زغيب عرف كيف يثمّر وزناته ويسلّط الضوء مُجددًا على كبيرٍ من أرضنا، جبران خليل جبران، وتحفتِه كتاب “النبي” الذي مضى مئة عام على صدوره. ولا أظنّ أنَّ باحثًا بعد الآن يمكنه التطرّق الى “نبي” جبران من دون المرور بصياغة هنري زغيب التي أبرزت ثراء النص الجبراني وانفتاحه على فضاءات جديدة، نظرًا لما يتضمّنه من إيحاءاتٍ ورموز.

  • جان جبور هو باحث ومترجم لبناني، وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية وعضو في “اتحاد المترجمين العرب”. حاز على “جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي” في دورتها الثالثة في العام 2017.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى